النظام المدني العلماني: الدولة والعلمنة – الجزء الثامن – القسم الثالث 

      يتضمن تعريف «المجتمع المدني» (راجع الحلقة السابقة) مفصلين:  الأول: عمل المؤسسات المدنية في استقلال عن سلطة الدولة، وهذا يطرح السؤال ما العلاقة بين «المجتمع المدني» و «سلطة الدولة»؟

      والمفصل الثاني هو تظهير مؤسسات «المجتمع المدني»، وهي: الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، النقابات المهنية، الجمعيات الثقافية والاجتماعية الخ.. فكيف نشأ مفهوم المجتمع المدني وتطوّر في الفكر الغربي و«التاريخ العربي»؟

      أولا: نشأة مفهوم المجتمع المدني وتطوره

      بداية، لا بد لنا من ابداء الملاحظات الآتية حول هذا العنوان:

1 ـ ان صياغة نظرية «المجتمع المدني» لم تتم دفعة واحدة على يدّ مفكر او فيلسوف واحد، بل هي نتاج مجموعة كبيرة منهم، تنتمي الى بلدان اوروبية متعددة.

2 ـ ان صياغة نظرية «المجتمع المدني» لم تظهر فجأة، في مرحلة تاريخية معينة، بل هي وليدة مخاض طويل استمر اكثر من قرن، وحدث ذلك بين القرنين السابع عشر والثامن عشر.

3 ـ ان نظرية «المجتمع المدني»، لم تكن وليدة التوافق الفكري بين القائلين بها، وانما تعرضت للجدل والنقض والنقد والخصومة والاعتراض بين القائلين بها وأتباعهم ومدارسهم ومؤيديهم ومعارضيهم.

4 ـ ان نقطة البداية في تفهم نظرية «المجتمع المدني» هي في ظل نشأة الدولة الرأسمالية الليبرالية الحديثة حيث حدث تميز بين أجهزة الدولة الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبين المجتمع المدني.

5 ـ ان جذور «المجتمع المدني» عرفت في التجربة السياسية، التي شهدتها علاقة المجتمع والدولة في «التاريخ العربي الاسلامي»، وبرزت من جديد في الفكر «والممارسة الاسلامية» المعاصرة.

6 ـ صياغة «جديدة » لنظرية «المجتمع المدني» في «مشروع الشرق الأوسط الكبير».

7 ـ قراءة في محددات هيئات «المجتمع المدني».

ان المحددات او الخصائص التي يجب ان تتمحور حولها، ما اصطلح على تسميته بهيئات المجتمع المدني، يمكن ايجازها بخمسة محددات رئيسية، مندمجة متفاعلة مع بعضها البعض، منفصلة فقط من حيث دراستها أو تشريحها، وهي:

الحرية، الرقابة، الالتزام، التخصص والتنوع، ومواكبة التقدم المعرفي، وفي ما يأتي لمحة موجزة عن كل منها:

أ ـ الحرية والتحرر: كانت الحرية وما زالت وستبقى جوهر الحياة الانسانية، فهي أم القيم والمثل والمبادئ، من هنا، فقد توج «الاعلان العالمي لحقوق الانسان» (1) المادة الأولى منه بأن جميع الناس يولدون احرارا، متساوين في الكرامة والحقوق، فقد نصت هذه المادة حرفيا: «يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم ان يعامل بعضهم بعضا بروح الاخاء»، وقد أكدت مواد هذا الاعلان صراحة على مبادئ الحرية والكرامة والمساواة والحقوق(2) أما ابرز المواد التي تضمنت موضوع الحرية، فهي المواد: 2 ـ 3 ـ 13 ـ 18 ـ 19 ـ 20 ـ 27 ـ 30. وفي ما يأتي نص المواد: 18 و 19 و 27 و 30، التي لها علاقة مباشرة في بحثنا:

المادة الثامنة عشرة: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الاعراب   عنهما بالتعلم والممارسة واقامة الشعائر، ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا ام مع جماعة».

المادة التاسعة عشرة: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها واذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية».

المادة السابعة والعشون: «لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكا حرا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه. لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على انتاجه العلمي او الأدبي أو الفني».

المادة الثلاثون: «ليس في هذا الاعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة او جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف الى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه».

      ان مجموعة «الحريات» (والحرية قيمة اجتماعية لا تتجزأ) التي نص عليها «الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وحرم على أية دولة أو جماعة أو فرد هدم هذه الحقوق والحريات، ان مجموعة » الحريات«هذه توجب على هيئات » المجتمع المدني«الالتزام بها، أي الالتزام بقضية الحرية التزاما تاما، خصوصا على مستوى الدفاع عن » حريات «التفكير والاعتقاد والتعبير والتغيير والاشتراك في الحياة الثقافية، والاستمتاع بالفنون، والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه.. ولطالما نجحت هيئات المجتمع المدني في حماية هذه » الحريات«وحماية المكتسبات الديمقراطية، حيث أخفقت الحركات السياسية المتصارعة على السطلة.

      ان دور هيئات المجتمع المدني في الالتزام بقضية الحرية والتحرر، يلزمها بواجب الرقابة الدائمة على السلطة، والتدخل في الوقت المناسب لمنع جموحها نحو هدم مكتسبات المجتمع المدني في ميادين الحقوق والحريات، التي نص عليها » الاعلان العالمي لحقوق الانسان«والتزمت السلطات باحترامه وتطبيقه، ومن هنا يتبين لنا أهمية التزام هيئات المجتمع المدني بالرقابة الدائمة الواعية على السلطة الحاكمة.

      ان التزام هيئات المجتمع المدني بمبادئ الحرية يحتم عليها، كمؤسسة تكتسب صفة هيئة اجتماعية مدنية أن تكون متحررة بذاتها، من رواسب الغريزية والعصبوية، والانطلاق نحو تحديد الانسان كغاية، والعدالة كهدف والحرية كمجرى حياة، أما من دون ذلك، فيستحيل اكتساب هذه الصفة، اذ كيف تستقيم حركة ما، تسمي نفسها «مدنية»، وهي تعمل، وتفكر ضمن نطاق الطائفة، او العرق او العشيرة أي ضمن غريزة جماعية لا تقيم وزنا لـ «الآخر»، بل قد تكون تعيش حالة استعلاء عليه، او نفور منه، او كراهية له، او حكم مسبق يعطل الحوار والتفاعل والتعاون(1)

ب ـ  الرقابة: لعل مسؤولية الرقابة من أهم وأبرز المعاني التي تضطلع بها هيئات المجتمع المدني. فوظيفة الرقابة، في الأنظمة الديمقراطية، على أنواعها، تحصر بالسلطة التشريعية، فيقوم البرلمان بمراقبة السلطة الاجرائية (التنفيذية) أي الحكومة (2)، الا ان من سلبيات هذه المراقبة، هي ان السلطة تراقب نفسها بنفسها (السلطة التشريعية تراقب السلطة التنفيذية)، فتأتي ممارسة الرقابة في معظم الأحيان قاصرة، بل قد تتعطل احيانا، وتتفلت السلطة الاجرائية من المراقبة الفعلية للسلطة التشريعية الممثلة للارادة الشعبية العامة، وهنا يبرز دور هيئات المجتمع المدني في ممارسة رقابتها، خصوصا على المؤسسة التي منحتها ثقتها عن طريق الاقتراع الحر، ولسنا نقصد هنا برقابة هيئات المجتمع المدني الرقابة الموضعية والمؤقتة فقط، بل هي العمل على خلق حالة ناتجة عن فعاليات هيئات المجتمع المدني التي تؤدي الى اشعار السلطة المعنية بأن الرقابة الشعبية موجودة وفاعلة ويصعب تجاوزها، بل على العكس فان القول الفصل في اثبات مواقع شرعية «السلطة التشريعية » أو عدمه، هو في يد السلطة الشعبية التي تملك وسائل الضغط والتعبير والتغيير بالوسائل الديمقراطية المشروعة والمناسبة، ولعل «الاحزاب السياسية» الشعبية لا السلطوية هي المؤهلة أكثر من غيرها، في هيئات المجتمع المدني للقيام بهذه المهمة الرقابية التغييرية. الا ان منح «الاحزاب السياسية» مهمة الرقابة المتقدمة على باقي هيئات «المجتمع المدني» تطرح السؤال: هل الاحزاب السياسية تتقاطع مصالحها مع السلطة؟ وبالتالي تفقد حريتها وحقها في التعبير عن الارادة الشعبية؟ والسؤال الأهم: ما مدى تقيد الأحزاب والحركات السياسية بروحية مبادئ هيئات المجتمع المدني؟

يتبع


(1)  ملاحظة: الاعلان العالمي لحقوق الانسان، صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويقع في ثلاثين مادة. راجع الملحق «الاعلان العالمي لحقوق الانسان».

(2)  راحع الملحق: «الاعلان العالمي لحقوق الانسان».

(1)  بسام ضو: « نظرة في مميزات هيئات المجتمع المدني»، مجلة فكر، العدد 87، آذار 2005، ص62 ـ 63

(2)  للمزيد، راجع: ادمون رباط: الوسيط في القانون الدستوري العام، دار العلم للملايين، ط 3، بيروت 1983، الجزء الاول ص 200 وما بعدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *