ما بال ذاكرتنا الجماعية والذعر؟

الذاكرة الجينية موضوع شغل العديد من علماء ومعالجي النفس وذلك منذ نشأة هذا العلم. أولى المعلومات تعود إلى عالم النفس كارل غوستاف يونغ (1875-1961) بعد دراسته اللاوعي الجماعي حيث اكتشف أن هناك نموذجا أصليا يتم من خلاله جمع معلومات وخبرات حياة فرد ما. وقبله منذ مئة عام عني العالم الروسي إيفان بافلوف (1849-1936) بدراسة الذاكرة الجينية، واستنتج أن المرء يرث آثار تجارب الأجداد، تلك المتعلقة بالخوف والألم أو مشاعر أخرى غير سليمة.

في العام 2013، أثبت عالمان أمريكيان أن الذاكرة الجينية أمر صحيح وموجود، بعد أن أجروا تجارب على الفئران تبين على إثرها أن الصغار يعانون من نفس الخوف والخشية – حتى بعد عزلهم عن آبائهم – تجاه رائحة زهور الكرز البري التي عمل العالمان على زج الخوف منها في وعي الفئران.

من خصائص الذاكرة الجينية أنها أولا على اتصال باللاوعي مسببة ظهور صور أو مشاعر لا يمكن تفسيرها، ثانيا على اتصال بأحلام الجنين بنسبة 60% حيث يبحث عقله عن معلومات ومهارات مستقاة من الماضي ويحتفظ بهذه الذاكرة لغاية عمر سنتين، ثالثا الذاكرة الجماعية التي لا علاقة لها بذاكرة الفرد الخاصة التي يعمل على تخزينها ونقلها إلى ذريته، رابعا وجود فارق بين الذاكرة الجينية الخاصة بكل عرق بشري وخامسا علاقة الذاكرة الجينية بالقوة الجسدية.

في الحقيقة إن مجال بحث هذه المقالة ليس الذاكرة الجينية من الناحية الفردية، بل من الناحية الجماعية وكيف يمكن تطبيقها على العلاقات الجغرافية السياسية بشكل عام وتلك المتعلقة بتطورات الأحداث على أمتنا وتداعياتها، فنرى أن هناك رابطا وثيقا بين تصرفات الغرب – أوروبا وأمريكا- والكيان المحتل في أمتنا. فلديهم، ونحن لا نستنبط علما، بل نستند إلى تجارب علمية، لديهم ذاكرة جماعية واحدة قائمة على حب السيطرة واستعمار الآخر وسرقة ثرواته إضافة إلى الكذب والاحتيال للحصول على المآرب. إن أصولهم واحدة وبالتالي يتقاسمون الذاكرة الجماعية.

يتزامن مع الخاصيات التي ذكرت نتيجة أساسية ألا وهي الخوف من ردة فعل الآخر مما يثير لدى الجماعة ذعرا كبيرا يحتم عليها العمل بحزم وقسوة وإجرام حتى تمنع عن الآخر أي توجه يصدها. لذلك نرى أن كافة التوجهات الغربية هي توجهات عدائية واعتدائية تمارَس بسرعة وغدر عملا على تحقيق نصر أكيد وتفاديا لأي هزيمة قد تصيبها. فمن الناحية النفسية الجماعية إن الغرب – وهنا نقصد به الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية- على علم جيد بتداعيات سياساته خاصة وأنها لا تمت فقط إلى الذاكرة المنسية والمنقولة عبر الخلايا الجسدية والمتوارثة، بل تدخل في إطار ذاكرة حية ترتكز إلى ماض مليء بالاعتداءات والاستعمار يرافقه الخوف من الآخر.

الخوف من الآخر أيا كان إذا لم يكن غربيا. الخوف من الاعتداء الروسي على الأراضي الأوروبية والخوف من السياسة التوسعية الصينية الاقتصادية يحتم على الرد الغربي أن يأتي سريعا وقاسيا وصارما، فتُفتَعل الحرب الأوكرانية مسببة مئات آلاف القتلى والمهجرين، ويُعمل على قطع الطريق على الصين من بوابة الشرق الأوسط، بوابة أمتنا، حتى ولو أدى ذلك إلى مقتل آلاف المواطنين السوريين وتهجير آخرين بالقوة أو بالرضى. إن الذعر شعور يشل العقل وقدرته على التحليل والتفكير واتخاذ القرارات السليمة وقد وصل في المجتمعات الغربية إلى مستويات عالية أفقدها عنصري الرجاحة والمنطق.

أثبتت التجارب التي أجراها مركز التنظيم الجيني في مدينة برشلونة الإسبانية ومعهد أبحاث Josep Carreras صحة موضوع توارث تجارب الأجداد، فقد تبين لهما أن أحفاد الذين نجوا من محرقة اليهود في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية يعانون من نقص في مادة الكورتيزول، وهي الهرمونة المسؤولة عن التوتر، مما يعني أن لديهم حساسية كبيرة تجاه الخوف والتوتر.

إن اليهود الذين قدموا إلى فلسطين ليحتلوا أرضنا ويهجروا أهلها هم من أصول غربية يحملون إلى جانب ذاكرة التسلط والاستعمار ذاكرة خوف مزدوج: خوف من المستعمَر، وهو عدو افتراضي موجود فقط في جيناتهم، وخوف من تكرار محرقة بحقهم فيعملون على استباق أي ردة فعل عبر فعل إبادة جماعية تماما كما حصل بهم. إن المدماك الأساسي لسياسة العدو هو الذعر، الذعر من الإبادة والذعر من الهروب والذعر من انتقاص لقدره ككائن بشري والتعامل معه على إنه من مستوى دون، الذعر من التشرد مرة أخرى في بقاع الأرض. لذا نراه يمارس الجريمة تلو الأخرى بسبب الخوف المتأصل في جيناته وما تحمله هذه الأخيرة من ذاكرة جماعية.

إن ما أذكره هنا هو تفسير لجرائم العدو المحتل وجرائم الغرب وليس تبريرا. لكني أتساءل عما نحمل نحن، أبناء الأمة السورية، في طيات جيناتنا من ذاكرة جماعية. ما الذي يخيف بعضنا من عدو يخافنا إلى أقصى الحدود، من عدو مذعور من ماضيه ومن مستقبله؟ ما الذي يجعل البعض منا يتماهى به ويعمل على إرضائه فيسمح له أن يستبيح أرضنا ويساهم في شرذمتها؟

فهل من المحتمل أن تكون ذاكرتنا الجماعية ذاكرة مفككة ومريضة، ذاكرة فاقدة للأجداد وللتاريخ؟

منذر فارس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *