في سعي دائم لطمس كل المعالم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الأراضي التي يحتلها العدو الصهيوني، لا يتوانى هذا الأخير عن محاولات المس بالهوية الثقافية للفلسطينيين وعرقلة كافة المناحي في هذا الميدان والإعتداء على حرية الفكر والتعبير بدءاً من المكتبات وصولاً إلى حركة النشر والنشاطات الأدبية، والثقافية، والمواقع الأثرية وسواها. وبالتالي تتعرض الثقافة الفلسطينية إلى محاولات إبادة ممنهجة ومدروسة.
منذ خمسة وسبعين عاماً يمارس كيان العدو حملة إبادة شاملة، وما زالت مستمرة، تستهدف من بين ما تستهدف قطاع الثقافة والتراث الفلسطيني. وقد واصل خلال هذه السنوات سرقة التراث والآثار والمقتنيات الثقافية وسلب ونهب منجزات الفلسطينيين.
آخر ما قرأناه على هذا الصعيد هو مداهمة شرطة العدو في التاسع من شباط مكتبتين في القدس الشرقية، ومصادرة كتب منهما لا سيما مصادرة كل كتاب وُضعت عليه صورة العلم الفلسطيني، بحجة أن «محتوياتها تحرّض على العنف»، و«الاشتباه في خرق السلام العام»، واعتقال اثنين من الموظفين، محمود وأحمد مُنى، أصحاب المكتبة العلمية في القدس، والتي تُعدّ صرحاً ثقافياً وتاريخياً هاماً يخدم المثقفين وأبناء المدينة. والجدير ذكره أن هذه المكتبات متخصصة في الصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي» وتاريخ القدس، وتعرض كتباً بالعربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية، ويقصدها عدد كبير من المواطنين والصحافيين الأجانب.
تُعتبر المكتبات أكثر من مكان لبيع الكتب. فهي مساحات خاصة تتيح اللقاء بين الأفكار والثقافات والأشخاص، وتحمل بين جدرانها ذاكرة جماعية ورواية ثقافية. وبالتالي فإن هذا الإعتداء وسواه من الاعتداءات المماثلة هي اعتداء على الهوية واستمرار لسياسة التضييق الممنهجة على المؤسسات الثقافية الفلسطينية في القدس المحتلة، وإسكات الصوت الثقافي المقدسي. ولا تقتصر هذه الاعتداءات على القدس المحتلة فحسب، بل على كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة.
فحتى نيسان 2024 تضررت في قطاع غزة وحده 32 مؤسسة ومركزاً ثقافياً ومسرحاً بشكل جزئي أو كامل بسبب الحرب «الإسرائيلية» المتواصلة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وشملت المؤسسات الثقافية المدمرة والمستهدفة في غزة 12 متحفاً، وتخريب ما يقارب 2100 ثوب قديم، وقطع تطريز من المقتنيات الموجودة في المتاحف أو ضمن المجموعات الشخصية، هذا علاوة عن هدم قرابة 195 مبنى تاريخي يقع أغلبها في مدينة غزة، منها ما يستخدم مراكز ثقافية ومؤسسات اجتماعية، إلى جانب تضرر 9 مواقع تراثية و25 مبنى وكنيسة ومسجداً ومواقع أثرية أهمها المسجد العمري وكنيسة القديس برفيريوس ومسجد السيد هاشم، ومسجد كاتب ولاية وغيرها وتعتبر هذه المساجد والكنائس التاريخية القديمة رموزاً ذات أهمية تاريخية ودينية على السواء، وتجسّد التاريخ الطويل للتعايش بين الأديان في غزة، وتشكّل جزءاً من ذاكرة القطاع.
وعلى خط آخر خسر الفلسطينيون، جرّاء تدمير جامعاتهم وأرشيفهم، مخطوطات تعود إلى قرون خلت، وقد لحقت أضرار فادحة بالتحف والكنوز الأثرية.
ولو أردنا رصد ما تم تدميره في قطاع غزة وحده، نجد أن الانتهاكات الإسرائيلية شملت تدمير مباني تاريخية وأثرية وثقافية بلغ مجموعها 207 يمكن تصنيفها كالتالي: 144 مبنى في البلدة القديمة من مدينة غزة، منها مباني أعطت المدينة شكلها وهويتها التاريخية مثل القيسارية أو سوق الزاوية وحمام السمرة وسبط العلمي وقصر الباشا، و26 مركزاً ثقافياً ومسرحاً، و9 دور نشر ومكتبات، و3 شركات إنتاج فني وإعلامي. كذلك، شملت انتهاكات الاحتلال تدمير مقر الأرشيف المركزي لمدينة غزة.
هذا على صعيد الأمكنة، والمراكز والمواقع الثقافية والأثرية. أما على صعيد العاملين في ميدان الثقافة والأدب والفن، سجلت انتهاكات «إسرائيلية» عديدة. فقد استشهد خلال عام 2023 عدد كبير من الفنانين والكتّاب والمبدعين، بلغ 44، أربعة منهم في الضفة الغربية فيما تركز الجزء الأكبر في قطاع غزة، من شعراء وروائيين وكتّاب وأعضاء في فرق دبكة بما في ذلك فرق الأطفال.
عمليات القتل والاغتيال تمت على خلفية أعمال فنية وثقافية، فيما حرم عدد كبير من الكتّاب والفنانين من التنقل للمشاركة في فعاليات ثقافية داخل فلسطين من جهة، وواصلت سلطات الاحتلال حرمان الكتّاب والمثقفين والفنانين الفلسطينيين من السفر من جهة أخرى، وبالتالي عدم المشاركة في الفعاليات المتنوعة وعدم تمثيل فلسطين في المحافل الدولية، كما منعت العديد من الكتّاب والفنانين والناشرين العرب من المشاركة في معرض فلسطين الدولي للكتاب الذي نظمته وزارة الثقافة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر عام 2023، إلى جانب حرمان مئات الكتّاب من غزة من المشاركة في فعاليات الوزارة في رام الله، خصوصاً ملتقى الرواية، ويوم الثقافة الوطنية، ومعرض الكتاب.
كذلك عمل العدو على تهويد المناطق، خصوصاً المناطق الأثرية والبلدات القديمة في القدس ونابلس والخليل وسبسطية، وتدمير مبانٍ تاريخية وأثرية ومتاحف، وتدمير ميادين عامة ونصب تذكارية وأعمال فنية في الميادين العامة وجداريات فنية، وسرقة الآثار في مناطق القدس ونابلس والخليل وغزة خلال العدوان المتواصل، وهدم مؤسسات ثقافية ومسارح ومطابع ومكتبات ودور نشر ومراكز للأرشيف، وإغلاق مؤسسات ثقافية ومنع نشاطات ثقافية في القدس، كما كان لسياسات الاحتلال أثر على توقف الكثير من النشاطات الثقافية بسبب الاجتياحات المتكررة والمجازر المختلفة التي ارتكبتها في مناطق مختلفة، كإلغاء مهرجانات مسرحية وثقافية وتراثية.
أخيراً من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في غياب كلّي للتحرك الدولي حيال التدمير «الاسرائيلي» للثقافة الفلسطينية وتراثها وتاريخها، وحدها جنوب أفريقيا سلّطت الضوء في الدعوى التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية ضد النظام «الإسرائيلي» بموجب اتفاقية جنيف، على دمار «الذاكرة والسجلات الرسمية للفلسطينيين في غزة»، بالإضافة إلى «ذكريات الأفراد وتاريخهم ومستقبلهم«. أما وزارة الثقافة الفلسطينية فحذرت من المساس بالآثار الفلسطينية والممتلكات الثقافية في فلسطين التي تعتبر جزءاً هاماً من ذاكرة البشرية، ودعت المجتمع الدولي إلى وقفة حقيقية أمام مسؤولياته لحماية هذه الذاكرة.