منذ الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأمريكي ترامب مع الرئيس الروسي بوتين واﻹعلان عن نيتهما لبدء مفاوضات سلام للانتهاء من الملف الأوكراني دون مشاركة أطراف أخرى، استفاق الأوروبيون من سباتهم فدب الرعب في خاطرهم وقد استعادت ذاكرتهم ما حل بهم نهاية الحرب العالمية الثانية عند انعقاد مؤتمر يالطا وتغيبهم عن طاولة المفاوضات. وفجأة تحولت التصريحات الأوروبية من العمل على تكبيد روسيا أكبر خسائر ممكنة عبر فرض حزمة عقوبات الواحدة تلو الأخرى، حتى لا يجول في بالها مرة ثانية الاعتداء على أراض أوروبية، إلى العمل على تفادي الفشل الذريع أمامها والمشاركة في مفاوضات السلام الأوكرانية كطرف من أطراف النزاع.
تبدو أوجه المقارنة بين مؤتمر يالطا والمؤتمر الأميركي الروسي المرتقب صحيحة، الأمر الذي يعطي الأوروبيين حق الاستياء من التوجه الأميركي والتذمر منه والأسف عليه.
قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية ببضعة أشهر، عُقِد ما عُرِف بمؤتمر يالطا في مدينة يالطا في القرم من 4 إلى 11 شباط 1945، وهو مؤتمر من بين سلسلة مؤتمرات كان أولها لقاء الأميركي روزفلت والبريطاني تشرشل والروسي ستالين في مدينة طهران الإيرانية من 28 تشرين الثاني إلى 1 كانون الأول عام 1943. كما سبق مؤتمر يالطا مؤتمر جرى في مالطا من 31 كانون الثاني إلى 2 شباط 1945 حيث التقى حينها الأمريكي والبريطاني من أجل بحث خطة مشتركة يقدمانها إلى الروسي ستالين تعنى بالحملة العسكرية النهائية للقضاء على القوات الألمانية واليابانية ووقف المد الروسي في أوروبا الوسطى. أما المؤتمر الأخير الذي عقد في تموز 1945 فجرى في بودتسدام قرب مدينة برلين الألمانية وقد تغيب عنه الأميركي روزفلت إذ وافته المنية في نيسان من نفس العام، كما تغيب البريطاني تشرشل الذي خسر الانتخابات مقابل مرشح حزب العمال.
أهداف مؤتمر يالطا هي: أولا التوصل إلى استراتيجية مشتركة لوقف الحرب العالمية الثانية، ثانيا تقرير مصير أوروبا بعد انهيار الرايخ الثالث، ثالثا ضمان استقرار النظام العالمي الجديد بعد الانتصار.
إذا كان الرؤساء الثلاثة قد اتفقوا رسميا على هذه الأهداف، بدا الهدف الحقيقي لكل واحد منهم العمل على فرض رؤيته لبناء عالم جديد. هدف تشرشل إنقاذ العالم البريطاني الاستعماري، وهدف ستالين توسيع رقعة نفوذه وضمان تقدم قوات الجيش الأحمر غربا. أما روزفلت فكان لديه فكرة واحدة ألا وهي خلق منظمة أممية وفرض نظام دولي مستند على احترام القانون. ففي الحقيقة لم يكن الأمر يتعلق، حسبما تم تداوله حول قمة يالطا، بتقسيم ألمانيا، بل تعلق بقدرة كل طرف على فرض نفوذه وعلى تقاسم عالم وضحت معالمه لاحقا عند بدء الحرب الباردة.
إن الاستعجال في عقد قمة يالطا كان نتيجة استنتاج أميركي بداية 1945 يؤكد استسلام ألمانيا الوشيك أمام المد الروسي. فكان من الضروري تفادي السيطرة الروسية على الأراضي الأوروبية ومنعها من التقدم غربا، بالرغم من أن المفاوضات دارت حول إعادة رسم حدود دول أوروبية وتقسيم ألمانيا إلى مناطق نفوذ وسيطرة أجنبية. فقد قدَّم الغرب (أميركا وبريطانيا) تنازلات كثيرة لستالين، حسب الاعتقاد الأوروبي، بينما اعتبر ستالين أن الاتحاد السوفييتي هو المنتصر الأكبر وله الحق في فرض ما يشاء.
شهد مؤتمر يالطا مساومات كثيرة واتفاقيات لصالح البعض وعلى الحساب البعض الآخر، لذلك لن ندخل في تفاصيلها المراحل التي سبقتها ولا حول عمليات التقسيم والعمل على استتباب نظام عالمي جديد، فالأرشيف الإعلامي والتاريخي والاستراتيجي والسياسي يعج بتفاصيل القمم المتعددة التي جرت أثناء الحرب العالمية الثانية وعقب الانتهاء منها كما ويعج بالتحليلات والاستنتاجات. ما يهمنا حاليا هو أوجه الشبه بين قمة يالطا والقمة الأميركية الروسية المرتقبة لحل الأزمة الأوكرانية.
يجد التخوف الأوروبي من عقد نسخة مجددة لمؤتمر يالطا جذوره في عمل الولايات المتحدة السابق على إبعاد الأوروبيين عن طاولة مفاوضات نهاية الحرب العالمية الثانية وعدم اعتبار أيا منهم طرفا أساسيا من أطراف النزاع، والسبب في ذلك واضح وسليم من الناحية الاستراتيجية. فبالرغم من تغني أوروبا بانتصاراتها في الحرب العالمية الثانية، إلا أن الحقيقة والواقع يفيدان عكس ذلك. إن أوروبا لم تنتصر في الحرب العالمية الثانية على الإطلاق، بل كان النصر حليف أميركا في وجه المد السوفييتي وما كان سيسببه من تغيرات على الساحة الجغرافية السياسية العالمية. إذا إن غياب الدول الأوروبية عن طاولة المفاوضات أمر محق وشرعي بالنسبة لأمريكا لأنها من عداد المنهزمين.
وهكذا على الصعيد الأوكراني حاليا، إن أوروبا تعاني من نقص في قدراتها العسكرية لصد التقدم الروسي الذي وإن اعتبره المراقبون تقدما بطيئا يقرون مع ذلك بأنه تقدم مؤكد. فالانتصار على روسيا يستدعي التدخل الأميركي، وقد أكده مرارا حلف شمال الأطلسي ودول الإتحاد الأوروبي، وبالتالي يمكن اعتبار أميركا حتما أحد الأطراف المنتصرة واعتبار عدم وجود أوروبا إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى محق وشرعي لأنها ليست طرفا منتصرا.
لم يكن هدف الاتصال الأميركي بالرئيس الروسي بوتين لنجدة أوكرانيا ولا لنجدة أوروبا من فشل ذريع ولا حبا بهما ولا حتى حبا بالسلام والأمن العالميين، بل هو تخوف من مد روسي وشيك. فلو سُمح لروسيا بالاستمرار في تقدمها ذلك يعني تخلي أميركا عن الدور الذي ترغب الاضطلاع به على الساحة الدولية وخضوعها إلى قوة عالمية أخرى تهدد أمنها السياسي والاقتصادي.
تبدو دعوة الفرنسي ماكرون لعقد قمة أوروبية مصغرة في باريس تعبيرا عن الاستياء الذي يشبه إلى حد بعيد استياء الجنرال ديغول سابقا عندما لم يدع إلى المشاركة في مؤتمر يالطا عام 1945 وهو الذي يعتبر أن بلاده قدمت الكثير تماما كما يعتبر الأوروبيون حاليا انهم قدموا الكثير لأوكرانيا. وما انعقاد هذه القمة يوم الاثنين 17 شباط 2025 إلا عملا على تفادي الشعور بالهزيمة وإعلاء المعنويات الأوروبية.
كان من المفترض أن تأتي نتائج قمة باريس هذه للإعلان عن رد أوروبي مشترك ضد التحركات الأميركية لكنها في الحقيقة أتت تأكيدا على الضعف الأوروبي وعلى عدم وجود سياسة خارجية مشتركة ولا هيكلية دفاعية مشتركة أو حتى احتمال إنشاء قوات عسكرية أوروبية مشتركة تجعل منه اتحادا مستقلا قادرا على مواجهة أي اعتداء. إن مشكلة الاتحاد الأوروبي حاليا هي مشكلة ذات حدين أولها الاستفاقة من هوام الحليف الأميركي وكل ما ترتب عنه سابقا ولفترة ثمانين عاما من توجهات وقرارات سياسية، وثانيها صعوبة مواجهة المرحلة المقبلة التي يجد نفسه محشورا بين عدو روسي قديم وعدو أميركي جديد.
قد يُدرج الأوروبيون لاحقا ويجلسون إلى طاولة المفاوضات لكن عليهم حاليا تحديد آليتهم المستقبلية. إنهم أمام معضلة كبيرة لكنها في الواقع أفضل ما يمرون به، فكم من ضارة نافعة.
بدر الغساني