«أول دخولو وشمعة عطولو». ينطبق هذا المثل الشعبي على الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي ما أن تسلم مهامه الرئاسية حتى اقترح نقل أكثر من مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى الدول المجاورة، لا سيما الأردن ومصر. وكأن ترامب ينقل قطعة أثاث من مكتبه البيضاوي إلى غرفة مجاورة.
خلال اللقاء الذي يجمع ترامب ونتنياهو أثناء زيارة هذا الأخير إلى الولايات المتحدة الأميركية، لا بد أن يبحث الإثنان اقتراح الرئيس الأميركي الذي يضغط على مصر والأردن من الباب الاقتصادي والمساعدات التي يقدمها لهذين البلدين. ذلك أن ثمة خشية من عدم رفض الأردن فكرة ترامب تماماً، لأنه معروف بموارده القليلة، وقد بلغ عجز ميزانيته 5.1% من ناتجه الاقتصادي لعام 2023، وخمس قوته العاملة عاطل عن العمل، ويعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، وهو ثاني أكبر متلق للمساعدات الأميركية في منطقتنا بعد الكيان الصهيوني، حيث تم تسليمه أكثر من 1.7 مليار دولار في عام 2023. أما مصر فتعد ثالث أكبر متلق للمساعدات الأمريكية في المنطقة، حيث تم تسليمها 1.5 مليار دولار في عام 2023.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حذّر منذ البداية من أن هدف الحرب «جعلُ الحياة في قطاع غزة مستحيلة، لدفع الفلسطينيين إلى المغادرة. هناك حقوق تاريخية لا يمكن الالتفاف عليها». وقد لمّح ترامب إزاء هذا الموقف إلى إمكان استخدام المساعدات الأميركية كأداة للضغط على مصر قائلاً «نحن نساعد مصر كثيراً، وأنا واثق بأن السيسي سياعدنا، فهو صديق لنا». وقد حُكي عن وجود اتصالات بين إدارة ترامب وبين إحدى الدول في المنطقة من أجل تشجيعها على استيعاب مؤقت لمواطنين من غزة في مقابل دعم اقتصادي أميركي.
الاقتراح «الترمبي» فتح شهية مسؤولي العدو الصهيوني الذين اعتبروه «فكرة ممتازة، واقتراح إيجابي، والانطباع في «إسرائيل» أن الأميركيين جدّيون بشأن هذا الموضوع، وأن المقصود ليس مجرد كلام من ترامب. إذن لقي الاقتراح استحسان السياسيين «الإسرائيليين» من اليمين المتشدد الذين سرعان ما تبنوا فكرته. وقال وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريش، الذي لطالما دعا إلى ما يسميه «الهجرة الطوعية لعرب غزة إلى دول العالم» منذ عام 2023، إن ترامب أقر بأن غزة هي «أرض خصبة للإرهاب»، وليس هناك شك في أن تشجيع الهجرة على المدى الطويل هو الحل الوحيد الذي سيجلب السلام والاستقرار لسكان «إسرائيل».
ومع تفاعل موضوع اقتراح ترامب تداعى وزراء خارجية دول السعودية والأردن والإمارات وقطر ومصر، إلى جانب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والأمين العام لجامعة الدول العربية، إلى عقد اجتماع سداسي عربي في القاهر، أكدوا فيه رفضهم تهجير الفلسطينيين والمساس بحقوقهم غير القابلة للتصرف واقتلاعهم من أرضهم بأي صورة من الصور أو تحت اي ظروف ومبررات.
وإزاء طرح ترامب الذي قابله رفض قاطع من قبل كل من مصر والأردن، والاجتماع السداسي في القاهرة الذي أكد على هذا الأمر، بدأت تطفو على السطح أفكار جديدة لنقل سكان قطاع غزة إلى دول أخرى. وقالت مصادر سياسية رفيعة المستوى في القدس حسب ما نقلت وسائل إعلام عدوة إنه من المتوقع أن تظهر أسماء دول إضافية في الأيام المقبلة قد تكون في نظر ترامب، خياراً ممكناً لاستيعاب سكان غزة، إذ يبدو أن ترامب يعتقد أنه قادر على إيجاد دولة توافق على استقبال مئات الآلاف من الفلسطينيين في مقابل تعويض مالي مناسب.
وكشفت شبكة التلفزة الأميركية «إن بي سي» أن إندونيسيا هي إحدى الدول التي يتم النظر فيها كملاذ مؤقت للاجئين من غزة. وقال مسؤول من إدارة ترامب للشبكة: «إن السؤال عن كيفية إعادة إعمار غزة لا يزال مفتوحاً، وكذلك أين يمكن نقل نحو مليونَي فلسطيني، موقتاً».
ورداً على ذلك، أكد الناطق بلسان وزارة الخارجية الإندونيسية أن الحكومة الإندونيسية تدعم إعادة إعمار غزة بطرق مختلفة من دون استقبال لاجئين فلسطينيين على أراضيها.
وفي سياق متصل، نفى رئيس وزراء ألبانيا إيدي راما تقارير إسرائيلية بشأن خطة ترامب لإعادة توطين 100.000 لاجئ من غزة في ألبانيا، واصفاً الأمر بأنه أخبار كاذبة.
وتأتي هذه التطورات في ظل تصريحات ترامب الأخيرة التي أشاد فيها بموقع غزة الاستراتيجي على البحر وطقسها الجيد، الأمر الذي أثار تساؤلات عمّا إذا كان ينظر إلى غزة على أنها فرصة استثمارية عقارية.
الأردن من جهته أكد بلسان وزير خارجيته أيمن الصفدي على رفض اقتراح ترامب وقال «إن الأردن للأردنيين، وفلسطين للفلسطينيين، ورفضنا للترحيل ثابت وغير قابل للتغيير».
وكان مسؤولون في الأردن ومصر حذّروا من أن أي موافقة على نقل الفلسطينيين قد تهدد استقرار الدولتين، وتثير غضباً شعبياً واسعاً. كما أشاروا إلى أن إعادة إعمار قطاع غزة قد يستغرق أكثر من عقد، ويكلف عشرات المليارات من الدولارات. وشددوا على أن أفكار ترامب هذه تواجه مقاومة شديدة من الدول العربية والفلسطينيين، الذين يعتبرونها محاولة لتغيير ديموغرافي وتطهير عرقي.
تندرج تصريحات ترامب، التي دعا فيها إلى نقل سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، ضمن مخطط أوسع لتصفية القضية الفلسطينية، وتشكل جزءاً من ضغط مستمر من جانب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لتغيير الواقع في المنطقة. وليست تلك مجرد تصريحات غير مدروسة، بل هي جزء من استراتيجية تهدف إلى تحويل الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» إلى قضية لاجئين، وبالتالي تجاهل الحقوق السياسية للفلسطينيين، وهي ليست إلا تجسيداً لرؤية أميركية- «إسرائيلية» قديمة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم تحت غطاء «حلول إنسانية». وتهدف هذه الدعوات بشكل غير مباشر إلى تعزيز انفصال غزة عن الضفة الغربية وتجزئة الأراضي الفلسطينية، مما يقوض أي فرص حقيقية لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافياً وقابلة للحياة، فضلاً عن أن نقل أكثر من مليوني نسمة يهدف إلى تهجير الفلسطينيين في إطار مخطط أوسع يرمي إلى تغيير التركيبة السكانية في المنطقة، وسيكون له تبعات ديموغرافية وسياسية معقدة قد تزعزع الاستقرار الداخلي لمصر والأردن.