هل نشوء فكرة الألوهة امتياز سوري؟

هل نشوء فكرة وحدة العنصر البشري، كما تجلت مع زينون بالمدينة الكون، امتياز سوري ؟

خط الفكر المشرقي المولود منذ الألف الثالث ق.م بشكل وثائقي تجلى فيما قدمته لنا منظومة كاملة من الأساطير والاعتقادات امتدت حتى منتصف القرن الأول ق.م.
التواصلية الذهنية والفكرية تجلت في ذاك المعطى الفكري الواحد بين كافة مواقع المشرق الرافدية والشامية، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية من بيئة طبيعية واجتماعية تفاعلية بين الجناحين، لكن كل هذا بقي تحت عباءة خط ذهني واحد تميزَ بالغنى والتنوع والعمق الإنساني.
الفكر المشرقي في الألوهية لم ينظر إلى شعوب وآلهات تختص بشعوب، فالإله العالي الواحد ” آنو ثم ايل ” كان إلهاً كونياً ولا يخص المشرق وحده، بينت هذه الحقيقة وثائقه، لنقرأ:
“بعد أن فصلت السماء عن الأرض
بعد أن فصلت الأرض عن السماء
وبعد أن عين اسم الإنسان / خلق الإنسان /
وبعد أن أخذ السماء ” آنو” (إله السماء)
وبعد أن أخذ الأرض انليل”.
نقارب هنا ” اسم الإنسان ” كبعد شامل للمفهوم الإلهي.
ونقرأ في ابتهال آخر:
“جليل أنت يا حامي البلاد
أنت حامي الشعوب كافة (نلاحظ هنا أن الإله في المعتقد المشرقي هو إله للبشر كافة)
يا من اسمه على ألسنة البشر جميعهم بالحمد والشكر
لكم أتمنى أن أبقى صحيحاً لكي أسبّح بحمدك”
وأيضاً:
“أبكم هو الإنسان، لا يعرف شيئاً،
ماذا في وسع البشر أن يعرفوا؟”.
تكثر الأمثلة هنا التي لم تشر إلى تصنيف بين البشر، بغض النظر هنا عن حالات تختص بالمدينة كحيز مكاني لإله يحمي المدينة تحت سلطة الإله العالي أبو السنين والخالد الخالق.
وفق هذه الاعتبارات بقي الفكر المشرقي منساباً حتى تجمده بعوامل الغزو الفارسي للمشرق في سنة 539 ق.م، مع الأخذ بعوامل التطور الفكري والديني مع الزمن.
مع الاحتلال اليوناني واستمرار ضعف المشرق السياسي، ضعفت الفاعلية الفكرية المشرقية وبنتيجة المد الإنساني والتفاعلات بين الشعوب التي احتلها الاسكندر، أصبحنا أمام حالة من الغليان والتفاعلات الفكرية والفلسفية في العصر الهلنستي، وهذا ما أفسح المجال للانفتاح الفكري وظهور دعوات وأفكار وفلسفات تشير إلى وحدة الجنس البشري، حتى أنه يلاحظ في هذا العصر ضعف الشعور القومي لدى الشعوب التي خلت آدابها من التبجح والحرب والتمجيد لصالح فكرة الإنسان الواحد.
هنا ولضعف النظام المشرقي السياسي، لا بد أن تساهم الرافعة الاجتماعية الثقافية بالتعبير عما تحمله من قيم إنسانية موغلة في القدم، لذا ساهم المشرق في فلسفتين هما الرواقية ثم الأفلوطينية المحدثة، هذه التي بقيت حتى عصر تدمر الذهبي في القرن الثالث الميلادي.
المُعبّر المشرقي الأول كان في الفلسفة الرواقية عبر ” زينون” الكنعاني 334 ق.م – 262 ق.م.
والذي استندت فلسفته على وحدة الجنس البشري والمساواة بين البشر، التسامح والشعور الإنساني.
الطبيعي هنا أن تأثير الرواقية امتد حتى ظهور المسيحية، فيليب حتي أشار إلى أن أول وسيط بين المسيحية والرواقية كان بولس الرسول، حتى أن رسائله بمضامينها وأسلوبها عبّرت عن مضمون رواقي خاصة في رسائله إلى أهل كورنثة ورومية وكولوسي وكورنثوس.ثم سوف تنجح المسيحية في التوفيق بينها وبين الرواقية.
في مقاربة بين تجليات الفكر المشرقي للألوهية في عمقه الزمني وبين فكرة الله في الرواقية، لا نلحظ افتراقاً بين النظرتين سوى بالتطور الذهني الزمني، إذ قالت الرواقية:
“ثمة معنىً مشتركاً يُعبّر عن فكرته بتلك الآراء الطبيعية التي تكون معنى مشتركاً لدى كل البشر، هذا المعنى يتولد عن تمثلات حسية بحسب الاستدلال الطبيعي، فنظام الكون وجماله يقودان إلى فكرة إله ناظم لهذا الكون” (نحن هنا لو استطعنا مقاربة خلق الكون في الأسطورة المشرقية لفهمنا هذه الفكرة بوضوح).
قال زينون:
“نحن على صواب في تبجيلنا للآلهة، ربما لا يمكن أن نكون على صواب في تبجيل ما ليس بموجود (الشك هنا فلسفة)، إذاً فالآلهة موجودة”.
ديوجينيس اللايرسي الرواقي قال في وصف الله:
“الله حي، خالد، عاقل، كامل، ذكي، مغتبط، منزه عن كل شر، يبسط عنايته على العالم وكل موجوداته، لا شكل إنساني له، هو مهندس كل شيء ومثل الأب”.
فالله في الرواقية هو مبدأ الالتحام والتعاطف، هو العقل، اللوغوس والقدر، الضرورة السامية.
لم تخرج الرواقية عن منهجها المشرقي، المقارنات بين الما قبل وبينها أكثر من أن تُحدد.هو خط ذهني فكري واحد سومري كنعاني أموري آرامي سرياني مسيحي.
في اعتبار الامتياز هنا للمشرق، فهذا يستتبع الاحتمال لا اليقين لأن الاكتشافات الأثرية والوثائقية للعالم القديم تَعِدُ بالجديد دائماً، مع الأخذ بعين الاعتبار إلى أن لكل مجتمع تاريخي ماضٍ يخصه ويبقى مقاربة مفهومه وذهنيته لوحدة الجنس البشري مع الاهتمام بالريادة التاريخية حتى الآن المتجلية في المشرق ثم مصر ومع الانتباه إلى أن الحضارة المصرية كانت حضارة قوقعة مقابل حضارة المشرق المترامية التفاعلات.
في المشرق ثمة تطور في فكرة الألوهية بدأ بآنو ثم ايل فالله، هذا حتى في التطور اللغوي الألسني.

بشار خليف