ظهرت فكرة العلمنة، التي هي صفة الدولة المدنية مع نشؤ«الدولة القومية» في اوروبا، وذلك بعد فترة طويلة من ظهور«الدولة التاريخية»، التي ابتدأت في الأقوام الثقافية، الخارجة من العصر الحجري إلى العصر المعدني، وهي الأقوام السامية في سورية (بابل وأرض كنعان)، والحامية في مصر.
ولم تأخذ الدولة، شكلها العصري الحاضر، الا بعد سلسلة من التطورات والثورات والنهضات الثقافية، وحتى نضع فكرة علمنة الدولة في سياق منهجية البحث العلمي الاستقرائي، علينا أن نتوقف عند أمر أساسي هو تتبع المراحل أو المراتب التي مرت بها الدولة على الصعيدين الديني السياسي وصولا إلى تحديد مفهوم الدولة.
عرفت الدولة، في سياق نشوئها وتطورها، مفاهيم متعددة مختلفة باختلاف النظريات الفلسفية التي انبثقت عنها.
بداية، من الملاحظ أن الدولة نشأت في المجتمع. وحتى نرى موقع الدولة في هذا المجتمع، لا بد من الاشارة إلى ان الاجتماع البشري، وفق علم الاجتماع، يقسم إلى نوعين رئيسيين: الاجتماع الابتدائي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية، هي رابطة الدم، والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية مستمدة من حاجات الجماعة الحيوية للارتقاء والتقدم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة. وفي الاجتماع الأول تقع الشعوب والقبائل التي هي في بداوة أو بربرية. وفي الاجتماع الثاني تقع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وانشأت الثقافة. أما اذا تتبعنا أحوال هذين المجتمعين من حيث شكل النظام المتبع في كل منهما، فنجد أن النظام الاجتماعي في المجتمع الاول (البربري) يقوم على الرابطة الدموية المنتهية بالقبيلة، ولا أثر في هذا النظام للحقوق الشخصية والملك الفردي، كذلك فان الفرد في هذا المجتمع فيمته عددية لا نوعية، لأن فقد العمران ونقص المطالب الحاجية والكمالية يبطلان المواهب الشخصية وينفيان المزايا الفردية. وبانتفاء الحقوق الشخصية في هذا المجتمع، ينتفي المعنى الاساسي لوجود الدولة التي وظيفتها الأساسية تعيين الحقوق والواجبات لأفرادها، ومن هذه النقطة الأخيرة، ننتقل إلى تفهم النظام الاجتماعي في الاجتماع الثاني حيث تقع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة، التي كانت الدولة من أبرز ظواهرها، ولعل الدولة، في هذا السياق، أجدر الشؤون والمظاهر الثقافية تمثيلا للحياة العقلية، التي هي من خصائص الاجتماع الانساني حتى ليمكن القول: ان الثقافة الانسانية والدولة صنوان) .
وإذا، قلنا ان الدولة هي أبرز الظواهر الثقافية في الاجتماع الثاني، فهذا لا يعني ان الدولة بذاتها مقياسا للثقافة العقلية، الا بما تنطوي عليه من حقوق.. وإذا أردنا أن نحصل على تحديد حقيقي للدولة، يجب أن ننظر، قبل كل شيء إلى الحقوق التي توفرها الدولة لرعاياها.
وإذا اهتدينا بتاريخ علم السياسة، منذ أيام اليونان حتى اليوم بدا لنا أن الدولة محور الدراسات السياسية، فعني الفلاسفة اليونان بالدولة المثلى، وانشغل المفكرون المسلمون بالدولة الشرعية أو الخلافة، واستغرق المفكرون المسيحيون في مناقشة العلاقة بين الدولة والكنيسة، وتناول المفكرون المحدثون نشأة الدولة وسيادتها. ويدل هذا الاهتمام المتواصل بالدولة على أن الفكر السياسي اعتبر في الماضي أن الظاهرة السياسية هي الدولة، واعتبر علم السياسة علم الدولة.
وعلى هذا الأساس، يعرّف كيتيل معنى العلوم السياسية على أنها علوم الدولة، فهي تبحث في التنظيمات البشرية التي تكون وحدات سياسية (دول)، وفي تنظيم حكوماتها، وفي فعاليات هذه الحكومات التي لها صلة بتشريع القوانين وتنفيذها، وفي علاقاتها بالدول الأخرى. وهي تبحث في تلك العلاقات التي تقوم بين الأفراد والتي تخضع لرقابة الدولة، وفي علاقات الأفراد، أو المجموعات بالدولة نفسها، وفي علاقات الدول بعضها ببعض. وتبحث في تطوير السلطة السياسية، بالنسبة إلى حرية الفرد.. والموضوعات التي تهم هذه العلوم بصورة رئيسية هي الدولة، والحكومة. وهنا لا بد لنا من الاشارة، إلى التمييز الذي وضعه كيتيل بين الدولة والحكومة، الذي يفيد أن الدولة هي الوحدة السياسية، في حين أن الحكومة هي السلطة السياسية داخل هذه الوحدة، وهذا يعني أن الحكومة ليست الدولة، فقد تأتي الحكومات وتذهب، أما الدولة فهي باقية، وقد يكون من حسن طالع الدولة كما يقول ماكيفر أن تتفق حدود الدولة مع حدود الأمة(.
ويخلص انطون سعادة، في كتابه في علم الاجتماع «نشؤ الأمم» إلى تعريف الدولة، كما يأتي: «ان الدولة شأن ثقافي بحت، لأن وظيفتها، من وجهة النظر العصرية، العناية بسياسة المجتمع وترتيب علاقات أجزائه بشكل نظام يعين الحقوق والواجبات، أما بالعرف والعادة ـ في الأصل ـ وأما بالغلبة والاستبداد، فهي اذن شأن من شؤون المجتمع المركب، لا وجود لها الا فيه، وهي لذلك شأن سياسي بحت، ومع ذلك فهي ليست شأنا لا اجتماعياً، فكما أن الدولة لا وجود لها الا في المجتمع، كذلك السياسة لا وجود لها بدون الاجتماع».
أما الدولة التي عرفتها المجتمعات الانسانية، من عهد «الدولة التاريخية» فقد مرت بعدة أشكال، يأتي في مقدمتها:
– الدولة الاستبدادية وعهد الامبراطوريات الأولى.
– الدولة الاقطاعية في الشرق والغرب.
– الدولة المدينية والامبراطورية البحرية.
– الدولة الدينية.
– الدولة الديمقراطية القومية.
وسنكتفي في دراستنا على معالجة الشكلين الأخيرين للدولة أي: الدولة الدينية والدولة الديمقراطية القومية، لعلاقتهما المباشرة بنشأة فكرة العلمنة وتطورها.
الدولة الدينية (التيوقراطية)
عرف العالم، بعد نشؤ الدينين الالهيين، المسيحية والمحمدية، شكلا جديدا من أشكال الدولة، عرف «بالدولة التيوقراطية » أو«الدولة الدينية» وتتقاطع الدولتان الدينيتان المحمدية والمسيحية في الأمور المشتركة الآتية:
– شرع الدولة هو شرع الله المنزل، وهو شرع كامل، واضح وجامد.
– استمداد سلطان الدولة من ارادة الله، والحكم هو بالنيابة عن الله، لا عن الشعب.
– الغاء معنى الأمة والقومية. فلا حدود للدولة الدينية، فهي تشمل المؤمنين كلهم بصرف النظر عن عصبيات الشعوب المتعددة.
– الروابط في الدولة الدينية هي رابطة المؤمنين الذين يشكلون أمة واحدة ـ مجتمعا واحدا يعود أمره إلى المؤسسة المتمركزة.
– المؤسسة المتمركزة في الدولة الدينية هي المرجع الوحيد لجميع المؤمنين، ولا تقبل المؤسسة الدينية أي اعتراض على مركزيتها، فحيثما وجد مركز السلطة الدينية يجب أن يتجه جميع المؤمنين. فاذا كان مركز المسيحية في روما وجب أن يتجه المسيحيون اليها لتفرض سلطانها كما تشاء. وإذا كان مركز السلطة الدينية المحمدية في تركيا، مثلا، وجب أن تتجه جميع الشعوب المحمدية إلى تركيا، لتأخذ توجيهاتها منها.
– الأسس الحقوقية، في الدولة الدينية، تقوم على اعتبار الحقوق فيها، هي حقوق المؤمنين فقط، وعلى غيرهم أن يؤدوا الجزية، ويكونوا في حماية الدولة، وهم محرومون من حقوقهم المدنية والسياسية، باستثناء الحقوق الخاصة في الأحوال الاجتماعية والدينية (السماح بممارسة عباداتهم وعقد الزواج حسب شرائعهم.(
ـ الارادة والمصلحة (اللذان هما قطبا المجتمع القومي)، هما في الدولة الدينية ارادة ومصلحة «مركز السلطة الدينية» الذي تتقدم، دائما، مصالحه الذاتية (القومية) وأطماعه ومطامحه، على بقية مصالح وآمال الشعوب التي تقع تحت سيطرته، بعامل التبعية الدينية، فمصلحة الشعب الذي تتمركز في وطنه السلطة الدينية، هي فوق كل مصلحة، والمقصود بالمصلحة هنا ليس المنافع المادية والعملية فقط، بل كل المقاصد والأغراض النفسية. وهكذا، في ظل هذا الواقع، تنتفي عمليا، كل معاني السيادة والحرية والاستقلال للشعوب التابعة الفاقدة ارادتها ومصالحها الحيوية من مادية ونفسية.
واذا كانت الدولتان الدينيتان في الشرق (المحمدي)، وفي الغرب (المسيحي) قد تقاطعتا في الأمور المتقدمة، فهما ايضا، قد تقاطعتا في سقوطهما، اذ أنه بعد تحولهما إلى امبراطوريتين دينيتين واسعتي الأطراف، سقطا، وأصابهما التقسيم إلى دول، لم يعد فيهما لكل تابع لدينه الحق في معدودية (1) كل دولة من الدين نفسه، بل أصبح كل واحد يخص الدولة معه يقظة الشعور بالوحدة الحيوية والمصلحة الواحدة والرابطة الواحدة في الحياة في أشكالها وأسبابها واتجاهاتها، مما جعل الجماعة، أو القوم، يدرك وجوده وارادته، وكان ذلك بدء نشؤ القومية التي هي ثقة القوم بأنفسهم واعتماد الأمة على ذاتها، وهكذا ظهرت «الدولة الديمقراطية القومية»، التي تم فيها فصل الدين عن الدولة، وتوحدت فيها المصالح والحقوق وتولدت منها وحدة الواجبات والارادة الشعبية العامة (الارادة القومية). وقبل الانتقال إلى بحث مقومات «الدولة الديمقراطية القومية»، لا بد من الاشارة، «إلى أن أكبر جامعتين دينيتين في العالم: المسيحية والمحمدية، لم تنجحا بصفة كونهما جامعتين مدنيتين سياسيتين، كما نجحتا بصفة كونهما جامعتين روحيتين ثقافيتين. ان الجامعة الدينية الروحية لا خطر منها، ولا خوف عليها. أما الجامعة الدينية، المدنية والسياسية، فتجلب خطرا كبيرا على الأمم والقوميات ومصالح الشعوب. ولنا في العهد التركي الأخير، أكبر دليل على ذلك».
بعد هذا العرض التاريخي لنشؤ الدولة بشكل عام، والدولة الدينية بشكل خاص، نعالج، في «الحلقة الثانية» موضوع «الدولة الديمقراطية القومية»، التي كانت فجرا جديدا في حياة الشعوب، الخارجة من سيطرة الدولة الدينية وقهرها.
(1) – ملاحظة: كانت معدودية الدولة، في ظل « الدولة الدينية » تقوم على مبدأ معدودية المؤمنين، لا على مبدأ معدودية القوم في البيئة ذات الحدود الجغرافية، فالمسيحي أخو المسيحي، والمحمدي أخو المحمدي، بصرف النظر إلى أية أمة انتمى كل منهما. فالمعدودية القديمة كما في عهد قياصرة روما كانت تمنح من قبل الدولة الدينية لمقاطعات بعيدة وشعوب عديدة. أما المعدودية الجديدة في الدولة القومية، فكانت حقا من حقوق كل فرد من أفراد الأمة بالولادة، ولم يكن للدولة أي سلطة لمنح هذا الحق أو تعطيله، كما في الدولة الدينية، لأنه في الحقيقة ان الدين في اصله لا قومي ومناف للقومية، وتكوين الأمة، لأنه انساني ذو صبغة عالمية.