مشروع سعادة النهضوي – الحلقة الثامنة والأخيرة

عاشرًا، العمل لمصلحة الأمة:

مشروع سعاده النهضوي يرتكز على عقلية أخلاقية جديدة تُعارض الأخلاق الرجعية السائدة نتيجة جهل المجتمع وتفككه وانحلال نظمه وانحطاط مستوى ثقافته وتهذيبه. هذه العقلية الأخلاقية، التي يقدمها حزب سعاده بمبادئه، هي أخلاق تعبيرية وصراعية، تهدف إلى تجسيد إرادة الأمة ومثلها العليا، وتعمل على تحقيق السعادة والمنفعة لكل أفراد المجتمع.

يؤكد سعاده أن مبدأ «مصلحة سورية فوق كل مصلحة» يُعتبر الأساس الذي يُبنى عليه العمل القومي، حيث يشدَّدَ على أن المصلحة القومية يجب أن تكون للعموم، وليس لتحقيق مصالح فردية أو فئوية. يُعدُّ هذا المبدأ مقياسًا لجميع الحركات والأعمال القومية[1]، ويُعزز من فكرة أن القضية القومية مرتبطة بمصلحة الشعب ككل.

تساهم الأخلاق القومية، وفقًا لسعاده، في تأسيس عقلية جديدة ترتكز على قيم التضحية والإخلاص للعمل من أجل مصلحة الأمة. وبدلًا من أن تسود المصالح الخصوصية والغايات الفردية، يجب أن تحل مصلحة الأمة التي توحّد الجهود وتوجهها نحو خدمة المجتمع.

في ظل الظروف القاسية التي مرت بها الأمة وما نتج عنها من استسلام للخنوع ومن ترجرج في المناقب والأخلاق وفقدان الثقة بمستقبل الأمة، حثَّ سعاده أبناء شعبه، وخاصة الشبيبة والطبقة المتنورة، على تلبية نداء الواجب القومي والعمل لقضية الأمة بإخلاص وتضحية من أجل تحقيق مصلحتها العليا. وتوجه إلى الشبيبة قائلاً: «إن أقدس واجبات الشبيبة السورية هو أن تحل المصلحة العامة محل المصلحة الخاصة، وأن تبدأ في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي، فتعود الصحة والنشاط إلينا ويصبح في إمكاننا بذل الجهود الصادقة لتحقيق مطلبنا الأعلى. وإلا، فإننا مهما اجتهدنا في تحسين أحوالنا الفردية، نظل معروفين بين شعوب العالم بالصفة الملازمة لنا، وهي صفة الخمول والأنانية الخائفة على ذاتها، المحبة للأخذ، الكارهة للإعطاء. فالآخذ لا يملك كرامة المعطي.»[2]

حادي عشر، تمكين الأمة بالقوة المادية والنفسية

يرى أنطون سعاده أن تمكين الأمة بالقوة هو عنصر أساسي لضمان استقلالها وكرامتها، فلا يمكن للأمة أن تحقق نهضتها أو تدافع عن سيادتها إذا لم تكن مجهزة بالقوة الكافية لحماية مصالحها الوطنية. مشروع سعاده النهضوي لا يقوم فقط على الإصلاح السياسي أو الاجتماعي، بل يشمل أيضًا تمكين الأمة من القوة المادية والنفسية اللازمة لضمان بقائها واستمراريتها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.[3]

في هذا الإطار، يؤكد سعاده أن الدولة القومية الاجتماعية هي دولة مقاومة بطبيعتها، لأنها حريصة على اتخاذ كل التدابير والإجراءات الضرورية لصيانة السلام الاجتماعي الداخلي، ولحماية سيادة الأمة وحقوقها وثرواتها القومية. هذه المقاومة لا تعني فقط مقاومة العدوان الخارجي، بل تشمل أيضًا بناء مجتمع قوي ومتماسك داخليًا يستطيع مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تهدد استقراره.

إلى جانب الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، يرى سعاده أن الدفاع عن الأمة وحماية سيادتها يتطلب إعداد جيش قوي ومجهز بالوسائل الحديثة التي تضمن فعاليته في تقرير مصير الأمة والوطن.[4] القوة العسكرية ليست مجرد وسيلة دفاع، بل هي جزء من هوية الأمة وقدرتها على فرض إرادتها على الساحة الدولية وحماية حقوقها. في هذا السياق، يؤكد سعاده على ضرورة تمسك كل أمة بمبدأ الأمة المسلحة، الذي يرى فيه الضمانة الوحيدة لاستمرار الأمة وبقائها. ويقول في هذا السياق: «مبدأ الأمة المسلحة هو المبدأ الوحيد الذي يجب أن تتمسك به كل أمة لا تريد الاضمحلال.» [5]

هذا المبدأ يعكس رؤية سعاده الشاملة للقوة، حيث لا تقتصر القوة على الجانب المادي فقط، بل تمتد إلى الجانب النفسي أيضًا. يرى أن القوة النفسية للأمة، والمتمثلة في وحدة الإرادة والوعي القومي، هي عنصر جوهري في تحقيق النهضة. الأمة التي تمتلك وعيًا جماعيًا قويًا وإرادة مشتركة لا تُقهر بسهولة، حتى في مواجهة قوى أكبر منها ماديًا. لذلك، يشدَّدَ سعاده على إعداد الشعب نفسيًا ليكون قادرًا على مواجهة التحديات، سواء كانت داخلية مثل الفقر والفساد، أو خارجية مثل العدوان العسكري أو السيطرة الاقتصادية.

إعداد الأمة بالقوة لا يعني التركيز فقط على الجانب العسكري، بل يشمل أيضًا تمكين المجتمع اقتصاديًا وعلميًا ليكون مستقلًا وقادرًا على الاعتماد على نفسه. يعتبر سعاده إن النهضة الاقتصادية والزراعية والصناعية هي جزء لا يتجزأ من قوة الأمة، لأن القوة الاقتصادية تعطي الأمة القدرة على تمويل قوتها العسكرية وضمان استمراريتها في وجه التحديات.

بالإضافة إلى ذلك، يركز سعاده على التعبئة الجماعية للأمة، حيث يجب أن يكون كل فرد فيها على استعداد للمساهمة في الدفاع عن الوطن، سواء عبر الخدمة العسكرية أو من خلال العمل الإنتاجي الذي يسهم في بناء القوة الوطنية. هذه الرؤية تتجسد في مجتمع متماسك ومتضامن، يعتمد على قوة الشعب بأسره وليس على قوة نخبة صغيرة.

بناءً على هذه الرؤية، فإن مشروع سعاده النهضوي يسعى إلى خلق دولة قوية وقادرة على حماية نفسها من كل أشكال التهديد، سواء كانت عسكرية، اقتصادية، أو ثقافية. والدولة القومية الاجتماعية هي دولة ذات سيادة كاملة، ترفض الخضوع لأي نفوذ خارجي أو هيمنة، وتسعى دائمًا إلى تعزيز استقلالها من خلال القوة الذاتية، سواء كانت قوة عسكرية، اقتصادية، أو نفسية.

في النهاية، القوة في فكر سعاده ليست مجرد وسيلة للدفاع، بل هي عنصر جوهري لبناء الأمة وتحقيق نهضتها. الأمة التي لا تسعى إلى تمكين نفسها بالقوة ستبقى عرضة للتفكك والانهيار، ولهذا يجب أن تكون القوة جزءًا لا يتجزأ من مشروع النهضة، لضمان استمرار الأمة وتقدمها.

الخلاصة:

في ثلاثينيات القرن الماضي، حذَّرَ سعاده من الأخطار التي تهدد الأمة في وجودها وقال: «إنّ هذه الأرض التي نعيش من خيراتها هي الآن مهددة من ناحيتين: من الجنوب ومن الشمال. ففي الـجنوب، في فلسطين تتغلغل الصهيونية وتستولي على أراض خصبة تصلح لإعالة مئات الألوف من السوريين. ومن الشمال يستفحل الخطر التركي على الحدود ويحاول أن يخترقها ويستولي على بقعة أخرى من البقاع السورية الخصبة الضرورية لحياتنا وتقدمنا.»[6]

بعد ما يقارب المئة عام تقريباً على كلام سعادة، نجد أن الأخطار ذاتها قد استفحلت وها هي الأمة السورية تواجه اليوم تحديات مصيرية وحرب إبادة وحشية يشنها الاحتلال الصهيوني الذي يسعى لتكريس دولته التوسعية والعنصرية على حساب وجودها، إضافةً إلى التبعية الخارجية والانقسامات الداخلية والعصبيات الطائفية التي تعيق استقرارها. في هذا السياق، تبرز الحاجة المُلّحة إلى مشروع نهضوي شامل يعيد للأمة وحدتها وحيويتها واستقلالها التام.

قدّم أنطون سعاده مشروعاً نهضوياً متكاملاً يهدف إلى بناء دولة قومية حديثة، ويرتكز على أسس متينة تشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية.  القومية في فكر سعاده هي حجر الأساس، وهي تعبير عن الوحدة الطبيعية للأمة والنظرة الشاملة إلى الحياة، حيث تتجاوز الانقسامات الدينية والعرقية وتجمع جميع أبناء الوطن في إطار قومي موحد. هذه النظرة تتطلب نهضة فكرية واجتماعية، تستند إلى إحياء التراث الثقافي والتاريخي وتوجيهه نحو المستقبل من خلال فهم معاصر للتحديات القائمة.

الوحدة القومية والديمقراطية هما الركيزتان الأساسيتان لبناء دولة حديثة تعبّر عن إرادة الشعب، وتقوم على سيادته وحريته. الدولة في مشروع سعاده ليست مجرد سلطة سياسية، بل هي مؤسسة الشعب الكبرى التي تجمع كل أفراد الأمة وتخدم مصالحهم المشتركة. لتحقيق هذا الهدف، شدَّدَ سعاده على فصل الدين عن الدولة واعتماد تشريع مدني يضمن المساواة بين جميع المواطنين ويزيل الحواجز الطائفية، بما يعزز وحدة المجتمع وترابطه.

التغيير الاجتماعي والاقتصادي يشكل جزءاً لا يتجزأ من المشروع النهضوي، حيث أكد سعاده على ضرورة تحرير الاقتصاد من التبعية الخارجية وتعزيز الإنتاج القومي ليصبح المجتمع قادراً على الاعتماد على ذاته وتنمية موارده بشكل مستدام. ويرتبط ذلك بـ تطوير التربية والثقافة، حيث رأى سعاده أن النهضة تبدأ بالتثقيف وبالتربية القومية الصحيحة التي تبني أجيالاً واعية ومثقفة، تحمل الوجدان القومي وتعمل من أجل تقدم الأمة ورخائها.

اعتمد سعاده على النهج العلمي والعمل المؤسساتي في مقاربته للنهضة، حيث شدَّدَ على أهمية التفكير العملي والمنظّم، وسحق المثالب الفاسدة، وإحياء المناقب الجميلة كالإخلاص، والمحبة والإخاء والعطاء، والإقدام والتضحية. ورأى أن تمكين الأمة بالقوة المادية والنفسية هو السبيل الوحيد لتحقيق استقلالها، وضمان قدرتها على مواجهة الأخطار المحيطة بها وتحديات العصر.

مشروع سعاده النهضوي هو مشروع شامل لتحقيق النهضة القومية، يعتمد على إرادة جماعية واعية، تتبنى العمل الفعّال والمنظّم لمصلحة الأمة. هذا المشروع يسعى إلى توحيد جهود أبناء الوطن، وتنظيمها في إطار مؤسسات قوية تعمل على تطوير المجتمع، وتعزز من قدراته وإمكاناته، ليتمكن من استعادة مكانته اللائقة بين الأمم. فقط من خلال هذه النهضة الشاملة يمكن للأمة أن تواجه تحدياتها، وتحقيق مستقبل مشرق يعيد لها كرامتها وسيادتها.

*رئيس الندوة الثقافية المركزية


[1] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 111.

[2] أنطون سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 2 (1932-1936)، ص 18.

[3] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 155.

[4] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، المحاضرة التاسعة.

[5] الآثار الكاملة، الجزء الثالث 1937، ص 140.

[6] أنطون سعاده، المجلد الثاني 1935-1937، خطاب الزعيم في صافيتا 17/12/1936 (الرجعية تحارب حربها الأخيرة).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *