خلال المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في آب 1897 في مدينة بازل، وجّه المستشار الألماني الأمير لودفيج السؤالين التاليين إلى ثيودور هرتزل: «كم تتوقع حاجتكم من الأراضي لإقامة دولتكم؟ وهل ستصل حدودكم إلى بيروت، أو ما بعدها شمالاً؟». وكان الجواب: «سنطلب ما نحتاجه، وكلما زاد عدد المهاجرين زادت المساحة المتاحة لنا، بالطبع سنشتري كل الأراضي التي نحتاجها بسعر السوق من مالكيها الحاليين» (من يوميات هرتزل، 6 تشرين الثاني 1898 المجلد الأول، المذكرات الكاملة لثيودور هرتزل، بالإنكليزية، نيويورك، 1960، الصفحات 701-702).
إثر انهيار السلطة في دمشق، وانشغال الحكم الجديد بتثبيت أوضاعه، وانقسام السوريين بين مؤيد للسلطة الجديدة المدعومة من تركيا والغرب، وآخر محبط من القمع والتنكيل اللذين يتعرض لهما وكذلك من خسارة الحكم، كانت إسرائيل وتركيا الرابحين الرئيسيين. وكان كل من أردوغان ووزير الحرب الصهيوني كاتس قد عبّرا عن انتصارهما في إسقاط دمشق. وترافق الاجتياح الإسرائيلي لما تبقى من الجولان والمزيد من الأراضي السورية مع تدمير الترسانة العسكرية السورية، مما أدى إلى وضع كارثي ليس على سوريا فقط، بل على لبنان والأردن والعراق ولعله أخطر بكثير بالمقارنة مع هزيمة 1967.
لكن بغضّ النظر عمّن يسيطر على الحكم في دمشق، فالأهم هو الخسارة الإستراتيجية لبلاد الشام عامة بسبب مضاعفات الاجتياح الصهيوني الأخير، والذي وضع مساحات شاسعة من الأراضي السورية تحت سيطرة إسرائيل مجاناً وليس بشراء الأراضي كما قال هرتزل. هذا الواقع الجديد سيدرك الجميع تبعاته الخطيرة في القادم من الأيام بعد أن تخمد «انتصاراتهم»! والسؤال اليوم هو: كيف سيتصرف الحكام الجدد أمام هذا الأمر الذي يتجاهلونه كلياً؟ والجواب كما يبدو أن أولويات الحكام الجدد هي ما أعلنه محافظ دمشق ماهر مروان بأنه يجب إقامة سلام مع إسرائيل.
الهجمة الصهيونية الجديدة أدخلت بلادنا في نفق مظلم. كان الصراع على سوريا بعد الحرب العالمية الأولى متعدد الأوجه والأطراف، بين الفرنسيين والبريطانيين، وبين الهاشميين والمصريين والسعوديين، وبين الغرب والسوفيات، وبين عبد الناصر ومناوئيه، وبين «البعث» و«البعث»، وبين «البعث» و«الإخوان المسلمين». أُنهك الشعب السوري بسبب تلك الصراعات، ضابط أطاح بضابط، وتقلصت تدريجياً حرية المعتقد مع الأنظمة العسكرية، واحتُلت الجولان كما سبق أن احتُلت الإسكندرون وفلسطين. واليوم تدخل سوريا في مرحلة جديدة، وهناك أطراف عدة عربية وأجنبية تحاول أن تحجز لنفسها موطئ قدم على الأرض السورية، مع فارق أساسي هذه المرة ألا وهو أن الجيش الصهيوني بات على أبواب دمشق.
الخطورة فيما جرى أخيراً ليس سقوط «البعث» وتولّي الإسلاميين المدعومين من تركيا والغرب السلطة، بل بالثمن الذي ستُطالب سوريا بدفعه لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة حديثاً، هذا في حال وافقت على الانسحاب وهذا مستبعد جداً. ومن المحتمل أنه حتى في حال التطبيع والاعتراف وفتح سفارة إسرائيلية في دمشق، فهذا لن يكون مغرياً بالنسبة إلى الصهاينة، والسبب يعود إلى أن الاستيلاء على الجولان وعلى قمم جبل الشيخ تحديداً، منح دولة العدو مزايا عسكرية عدة إضافة إلى موارد اقتصادية ضخمة. وهذا ما أعلنه نتنياهو من على قمة جبل الشيخ حين قال: «نحن هنا لحماية أمن إسرائيل».
وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن الأهمية العسكرية والاقتصادية للمناطق التي سيطرت عليها تعتبر قفزة أساسية وإستراتيجية بكل المعايير. وحتى كتابة هذا المقال، ثبت أن المساحات التي تم احتلالها منذ حرب 1967 حتى اليوم تفوق الثلاثة آلاف كيلومتر مربع، والتوغل متواصل. وهذه المساحة ستضاف إلى لائحة الأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل بالقوة العسكرية في الجولان. ورغم قرار الأمم المتحدة برفض ضم إسرائيل للجولان، إلا أن الأمر الواقع والاحتلال هما السائدان، ويضاف إليهما موافقة الإدارة الأميركية على قرار الضم في آذار 2019، وبدورها فرضت سلطات الاحتلال على السوريين الجنسية الإسرائيلية.
السيطرة على الأرض وسكانها رافقها تشييد المستوطنات، وإقامة مشاريع اقتصادية وعسكرية ضخمة وطرد مئة وثلاثين ألفاً من السكان. إضافة إلى ذلك، فإن السيطرة الكاملة على قمم جبل الشيخ التي تراوح ارتفاعاتها ما بين 1000 و2814 متراً عن سطح البحر تؤمن للإسرائيليين فوائد عسكرية على درجة كبيرة من الأهمية، وتجعل من الصعوبة تنفيذ أي هجوم سوري مفاجئ، بسبب أجهزة المراقبة والاستشعار من بعد التي تشرف على مناطق شاسعة من سوريا والأردن ولبنان وصولاً إلى العراق. وأيضاً حصدت إسرائيل امتيازات أمنت لها الدفاع والهجوم السريع في آن معاً من مواقع حصينة ومرتفعة. وقد قدّر خبراء صهاينة أن تكاليف المنشآت العسكرية التي سبق أن أقيمت في الجولان قبل «طوفان الأقصى» بـ 20 مليار دولار.
وإلى جانب الأهمية العسكرية، فإن العدو يدرك أن تدمير أسلحة الجيش السوري وضع سوريا في حالة من الضعف يصعب عليها تجاوزها على الأقل في المدى المنظور. لذلك يتوجب على السوريين بكل توجهاتهم أن يدركوا أن البلاد وقعت، وأن النهوض يحتاج إلى تماسك ووعي لخطورة الاجتياح الصهيوني الأخير. لكن صمت النظام الجديد عن الاجتياح الإسرائيلي، وعن تدمير مقدرات سوريا العسكرية، إضافة إلى تصريح محافظ دمشق أن الحكم الجديد يريد علاقات جيدة مع إسرائيل، يوضح بما لا يترك مجالاً للشك أن الرياح تجري عكس مصالح الشعب السوري.
لقد سبق التطورات الأخيرة إعلانٌ من قبل القادة الصهاينة أن ما يتمنونه ويعملون لتحقيقه هو تفكيك الجبهة الشرقية، وبصورة خاصة سوريا والعراق، على أساس مذهبي وعرقي وطائفي كما في لبنان. إضافة إلى ذلك تفكيك المقدرات العسكرية لهذه الكيانات، وهذا أمر يخدم المشروع الصهيوني على المدى القريب. ومشاريع التقسيم التي أعلن عنها الصهاينة تتشابه مع التقسيمات الفرنسية السابقة. ومن خططهم دولة سنية في حلب وأخرى في دمشق على عداوة مع دولة حلب، ودولة علوية على الساحل. أما الدروز في مناطق حوران وشمال الأردن، فقد يقيمون لهم دولة، أو يجري ضمّهم إلى الجولان، وبالطبع دولة مسيحية في لبنان (جاء ذلك في بحث لأوبيد ينون بعنوان «إستراتيجية إسرائيل في الثمانينات»، نشر في مجلة «اتجاهات» العبرية عام 1982 وترجم إلى الإنكليزية عام 1982، الصفحات 49-59).
إضافة إلى المزايا العسكرية التي حصدتها إسرائيل نتيجة الحرب السورية وسقوط السلطة في دمشق، فإن المكتسبات الاقتصادية توازي بأهميتها الفوائد العسكرية. فمنطقة الجولان، وبالتحديد جبل الشيخ، تحوي على جميع مصادر المياه التي كان يحلم ويخطط للاستيلاء عليها القادة الصهاينة الأوائل. فهي تشمل منابع نهري اليرموك والأردن، أما مياه بانياس وهضبة الجولان إجمالاً، والأنهر في جنوب لبنان، فهي المصدر الأساسي لبحيرة طبريا وهي أضخم خزان مائي في فلسطين. مصادر المياه هذه لا يمكن أن تعوضها عمليات تحلية مياه البحر التي تجري حالياً والتي لا تكفي للزراعة ولاستقطاب المزيد من المستوطنين الجدد. لذلك من المتوقع أن يتشبث الصهاينة بالبقاء في هذه المنطقة المهمة وسيعملون على زيادة الاستيطان فيها.
هذا الواقع المرير لن يغيره إلا التنظيم المضاد بهدف حشد طاقات الشعب السوري الضخمة. لقد كان السوريون عبر تاريخهم درع بلاد الشام، وشرعية أي حكم في دمشق مصدرها الأول والأخير موقف الحكم أياً كانت توجهاته الإيديولوجية من احتلال الأرض السورية في الجولان وفلسطين. فقط القوة الشعبية المنظمة والمؤمنة بعدالة قضيتها، رغم كل المعوقات والصعوبات، هي القول الفصل في استعادة الأرض المحتلة… ودون ذلك الخراب والتقاتل الداخلي على مفاهيم مذهبية وإثنية بائدة، ولن تكون نتيجته إلا تدمير المجتمع السوري وتفكك لحمة الجغرافيا السورية.
* المقال نشر في جريدة الاخبار