يعتبر السواد الأعظم من المجتمع الدولي المستوطنات «الإسرائيلية» في الأراضي الفلسطينية أنها خرق للقانون الدولي. وقد أيدت الأمم المتحدة مراراً وتكراراً أن بناء العدو الإسرائيلي للمستوطنات يشكل انتهاكاً للفقرة الـ 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، ويظهر ذلك خصوصاً بتبني مجلس الأمن في الأمم المتحدة للقرار 448 في آذار عام 1979 الذي اعتبرها غير قانونية.
يتوقع الباحثون «الإسرائيليون» أن استمرار الحرب في الشمال سيفقده 10% من مستوطنيه كل شهر، وأن التركيبة الاجتماعية والعرقية للجليل والشمال لن تعود يوماً إلى سابق عهدها، لا سيما مع كيان فقد ردعه وهجومه وتفوقه وحسمه.
وإذ يركز العدو حالياً على عدم عودة المستوطنين إلى شمال الكيان، خشية ضربات المقاومة رغم اتفاق وقف إطلاق النار بينه وبين لبنان، من الأهمية بمكان التذكير أنه في الثامن عشر من تشرين الأول 2023، أطلق الاحتلال أكبر عملية إخلاء في تاريخه، شملت 28 مستوطنة في شمال فلسطين المحتلة، تبعد ما بين 2 إلى 5 كيلومتراً عن الحدود اللبنانية، في خطوة تهدف إلى تقليل الخسائر البشرية تحت وطأة صواريخ المقاومة وضرباتها.
ووفقاً لبيانات الإحصاء المركزي للعدو الصهيوني عام 2022، فقد بلغ عدد مستوطنات الشمال 417 مستوطنة، وتعتبر منطقة شمال فلسطين مهمة بالنسبة لاقتصاد العدو، وخصوصاً في قطاعي الزراعة والسياحة والصناعة. والواقع أن الحرب المستمرة منذ تشرين الأول 2023 أسفرت عن إضرار بقيمة 311 مليون دولار كخسائر مباشرة في الدخل، فضلاً عن 715 مليون دولار كخسائر في الدخل في القطاعات المرتبطة بالسياحة.
وللجليل الأعلى أهمية سياحية كبيرة، إذ يقصده سنوياً حوالي 1,5 مليون سائح، ويتميز باجتذابه للسياحة الداخلية. وهو يشتمل على 211 موقعاً للسياحة الزراعية، و557 موقعاً للسياحة الطبيعية و527 موقعاً للأنشطة السياحية، و243 موقعاً للسياحة الثقافية.
ولم يكن القطاع الزراعي بمنأى عن هذه الأضرار أيضاً. فقد ألحقت الحرب ضرراً كبيراً في القطاع الزراعي، واحترق في المستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة أكثر من ألف دونم، تضم بساتين للأفوكادو والتفاح والمانغا والخوخ والمشمش والدراق والكيوي، فضلاً عن كروم العنب والزيتون. وحتى نهاية أيار الماضي، قدّرت الأضرار غير المباشرة التي لحقت بالمزارعين في الشمال بنحو 270 مليون دولار. وتشير أرقام وزارة الزراعة والأمن الغذائي في الكيان الصهيوني إلى أن 100 مليون طن من الدجاج الصالح للطهي يتم إنتاجه سنوياً في الجليل والجولان.
ويُقدر عدد مستوطني الشمال بأكثر من مليون ونصف. وتسبب الإخلاء وصواريخ المقاومة بمغادرة أكثر من 200 ألفاً منهم على أقل تقدير، وبإيقاف كامل لقطاعات صناعية وزراعية وإنتاجية. فيما كشفت أعداد المستوطنين التي تعلن رفضها العودة إلى مستوطنات الشمال حتى في حال وقف الحرب، عن فشلٍ لمخططات الاحتلال في تهويد الجليل، التي بدأت في ستينيات القرن الماضي.
وإذا تحدثنا بالأرقام فإن سلطة الاحتلال حاولت التعتيم على حجم الخسائر والأضرار، ومقدار الهزيمة العسكرية والسياسية التي أصابتها بفشل حصنها الاستراتيجي الذي أنفقت الملايين على دعمه وإسناده منذ سبعينات القرن الماضي، وأسست في ضوئه أكثر من 700 منشأة عسكرية وصناعية وإنتاجية وتجارية، وأكثر من 9758 مشروع إنتاجي واستثماري عام 2022 وحده، من أصل 102,074 مشروع قائم سابقاً بهدف تغيير النمط الاستيطاني والديموغرافي في الجليل.
وبرغم تستر العدو عن الخسائر، يستدل من البيانات الرسمية التي تم جردها تضرر 8834 منزلاً وتدمير 7029 مركبة مدنية، وتضرر كامل لـ 343 مزرعة تمتد على عشرات آلاف الدونمات، وتسجيل 1070 دعوى تعويضات لمنشآت تجارية واقتصادية ومصالح تجارية صغيرة. وتشير المعلومات أن الخسائر فادحة بسبب تضرر الممتلكات والبني التحتية والمشاريع التجارية والاقتصادية والزراعية والتعليمية والسياحية، وكلها قطاعات تدمرت بالكامل.
وسبق أن أكدت وسائل إعلام العدو أن التصعيد المتواصل على «الحدود الشمالية» يزيد حالة القلق لدى المستوطنين، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، فآلاف الأعمال التجارية في المستوطنات الشمالية أُغلقت منذ السابع من تشرين الأول 2023 وتوقفت، وتراجعت المبيعات والمداخيل في المحال التجارية إلى حد كبير، إذ انخفضت نسبة المبيعات إلى أكثر من 70 في المئة.
عدا الأوضاع التجارية والزراعية والسياحية المتدهورة في شمال كيان العدو، ثمة قطاع عالي الأهمية على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي يشهد ترنحاً وهو المصانع التي بناها الكيان الصهيوني في الشمال المحتل على مدى أربعين عاماً وتتركز في المجالين العسكري والتكنولوجي اللذين يمثلان معاً نحو 30 % من الناتج الاقتصادي للاحتلال وفق أحدث تقرير صادر عن وزارة الاقتصاد الصهيونية، ما يعني أن ركيزة كبرى للاقتصاد الصهيوني موجودة في شمال الكيان. ووفق التقارير الصحفية للعدو فإن مصانع بالجملة أصبحت خالية، ونزحت منها اليد العاملة بعشرات الآلاف بسبب فقدان الأمن والقدرة على الإنتاج.
ولعل من الأهمية بمكان إيراد مثال واحد يعكس تردي وضع المصانع في مستوطنات الشمال التي تزداد تضرراً من الناحية الاقتصادية إثر النزوح منها وشبه خلوّها من المستوطنين. في هذه المنطقة مصنع متخصص في العدسات يدعى مصنع «عدسات حانيتا»، توقف عن العمل بعد أكثر من 40 عاماً بعد أن كان يصدّر 90% من إنتاجه إلى الخارج. وقد حذّر الصناعيون هناك أن فرص عودة العمال الى المستوطنات التي نزحوا منها ضئيلة، وأن هذه المستوطنات ستخبو إذا غادرتها الشركات والمصانع. وتجدر الإشارة إلى أن متوسط إنتاج 85 مصنعاً كبيراً في الشمال والجليل الأعلى تراجع إلى نحو 70%، وأن غياب مستوطني الشمال عن العمل يكلّف الاقتصاد الإسرائيلي أكثر من 63 مليون دولار أسبوعياً.