لأن الأرض ليست أرضهم، ولأن عدم الثقة بالسياسيين «الاسرائيليين» من قبل مواطنيهم قد ارتفع منسوبها، وفي ظل استمرار الحرب على غزة، ووسط انخفاض مستوى المعيشة وتفاقم حدة الانقسام الداخلي في الكيان الصهيوني، تفاقمت الظروف التي تدفع باتجاه الهجرة المعاكسة ل «الإسرائيليين» من هذا الكيان إلى دول العالم التي أتوا منها واحتلوا أرض فلسطين عنوة. من هنا أصبحت هجرة المواطنين اليهود من دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول 2023 ظاهرة واضحة لا يمكن تجاهلها.
ويخشى الكيان الصهيوني، بمجرد نهاية العمليات العسكرية، من دخوله في أتون حرب سياسية ضارية تغذيها بيئة اجتماعية ملتهبة وتحيطها تحديات اقتصادية شاملة أهونها عجز كبير في ميزانية الدولة سيؤدي إلى ارتفاع حتمي في الضرائب وإجراءات تقشف وتقلص في الخدمات العامة، مما قد يدفع المزيد من سكان «إسرائيل» إلى اتخاذ قرار الرحيل. وبالتالي مهما تكن النتيجة النهائية للمواجهة العسكرية بين الغزاويين وقوات العدو، من المرجح أن هناك المزيد من التداعيات السلبية القادمة على الاقتصاد والسياسة والمجتمع في «إسرائيل».
وتشير المعلومات نقلاً عن بيانات العدو الرسمية إلى ارتفاع عدد المستوطنين الذين يغادرون الكيان إلى الخارج منذ بدء العدوان على غزة في تشرين الأول 2023، ووصول عددهم إلى مليون شخص تقريباً خشية على مستقبلهم.
وفيما أشارت التقارير الإحصائية إلى تفاقم الهجرة العكسية من «إسرائيل» بعد اندلاع الحرب على غزة، لوحظ الإعلان عن تأسيس حركات وجمعيات شعارها «لنغادر معاً»، والتي استقطبت عشرات آلاف المستوطنين الإسرائيليين. وهذا ما شكّل مصدر قلق لدى مسؤولي العدو الذين يناشدون مواطنيهم عدم المغادرة إلى الخارج لتخوفهم من تبعات هذه الهجرة، مما يعكس مرور الكيان الصهيوني بأصعب فترة في تاريخه والتي تتجلى أسبابها بإرباك الحرب عليه والمقاطعة الدولية وتضرر منظومة الردع لديه وبقاء 120 من مواطنيه في الأسر لدى «حماس»، هذا فضلاً عن فقدان السيطرة على الاقتصاد والعجز الذي يصيبه.
في الأشهر الستة الأولى من الحرب، غادر نصف مليون شخص دولة الاحتلال الإسرائيلي في وقت أصبحت فيه الهجرة نحوها أقل بكثير مما كانت عليه قبل الحرب، وتبلغ نحو 2,500 مهاجر شهرياً. وبالعودة إلى الأرقام غادر نحو 20,000 شخص الكيان في شباط، وفي آذار غادر نحو 7,000 شخص، وبإضافة الوافدين والخارجين في نيسان إلى العدد العام، فإن الفجوة لصالح عدد الخارجين وصلت إلى نحو 550,000 ألف شخص، وفق الإعلام العبري، المعتمد على بيانات رسمية من الوزارات المختلفة في حكومة العدو.
ودائماً وفق المثل القائل «وشهد شاهد من أهله»، كشفت نتائج استطلاع للرأي بين «الإسرائيليين»، أن 40 في المئة منهم يفكرون في الهجرة المعاكسة، أي مغادرة فلسطين والعودة من حيث أتوا، وبرروا ذلك بسبب التدهور الحاصل في كيانهم لأسباب عدة منها الوضع الاقتصادي وخيبة الأمل بسبب تعثر التسوية مع الفلسطينيين. وفي السياق عينه، وحسب دراسة صادرة عن أحد مراكز أبحاث للعدو فإن 59 في المئة من اليهود في «إسرائيل» توجهوا أو يفكرون بالتوجه إلى سفارات أجنبية للاستفسار وتقديم طلبات للحصول على جنسيات أجنبية، بينما أبدت 78 بالمائة من العائلات اليهودية دعم أبنائها الشباب للسفر إلى الخارج.
اللافت أن قلق المسؤولين الصهاينة اليمينيين المتطرفين حيال هجرة المستوطنين المعاكسة، تقابله ظاهرة متزايدة في نشوء طبقة متنامية من اليسار الإسرائيلي، تبتعد عن الصهيونية و«إسرائيل»، ويتراجع اهتمامها يوماً بعد يوم بالدولة اليهودية، وتدير خطاباً نشطاً ضد المشروع الصهيوني بأكمله، يدعون لإعادة قراءة أحداث النكبة، والدولة الفلسطينية، وحقيقة حدود 48 و67.
وثمة حقيقة مهمة أخرى، وهي أنه على الرغم من كون حرب أكتوبر كانت بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير» بالنسبة للكثير من المهاجرين والمخططين للهجرة في «إسرائيل» فإن الدوافع وراء هجرتهم لم تكن الحرب أو عمليات المقاومة فحسب، بل كان منها كذلك شعورهم بأنهم يعيشون في مجتمع يتجه بوتيرة متصاعدة نحو التطرف الديني.
ووفقاً لأرقام ما يسمى «وزارة الاستيعاب» في الكيان الصهيوني، غادر ما مجموعه 720 ألف مستوطن يهودي «إسرائيل» واستقر في الخارج منذ مطلع 2021، في حين سجّل العام نفسه تفوقاً في ميزان الهجرة المعاكسة لمهاجرين يهود هم في الأساس قادمون من الخارج. وإذا كانت هذه الأرقام قد سُجلت قبل عملية «طوفان الاقصى»، فإنه من الطبيعي أن تسجل ارتفاعاً لافتاً بعدها لأسباب أتينا على ذكرها. فقد أظهرت الأرقام أيضاً أن عدد المهاجرين اليهود إلى الكيان الصهيوني قد انخفض مع الشهر الأول بعد تشرين الأول 2023 بنسبة 50% مقارنة ببداية العام، ثم انخفض العدد بنسبة 70% في تشرين الثاني 2023، إذ هاجر فقط ألفا شخص إلى «إسرائيل» بين بداية تشرين الأول ونهاية تشرين الثاني.
وبحلول حزيران 2024 ذكرت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» أن نصف مليون «إسرائيلي» غادروا بالفعل دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب، ولا يُعلم ما إذا ما كان ذلك قراراً مؤقتاً أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة.
وفي تموز أكدت الصحيفة نفسها اعتماداً على بيانات «المكتب المركزي للإحصاء» أن عدد أصحاب الجنسية الإسرائيلية الذين غادروا بشكل دائم بعد طوفان الأقصى ارتفع بشكل كبير في الشهر الأول من الحرب، ثم انخفض العدد نسبياً في الأشهر التالية. وفي هذا السياق، ذكرت الصحيفة أن «الإسرائيليين» كانوا يهاجرون بالفعل بوتيرة مرتفعة منذ منتصف عام 2023.
وقد ذهب الأمر بوزير مالية العدو المنتمي إلى اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش إلى الإعلان في شباط الماضي عن خطة لمنح مكافآت مالية للمهاجرين الجدد القادمين من الغرب إذا ما عاشوا ضمن ما سماها «الحدود الجنوبية أو الشمالية لإسرائيل»، أو في الضفة الغربية.
اللافت أن نزوح هؤلاء من الكيان الصهيوني يشكّل تحذيراً بشأن مستقبل البلاد الاقتصادي والاجتماعي، ذلك أنهم من فئة الشباب ومن هم في بداية حياتهم المهنية، مما يؤثر على القوى العاملة في المستقبل، حيث يغادر الكثيرون البلاد لمواصلة تعليمهم أو البحث عن فرص عمل وتدريب في الخارج. وفي عام 2023 كان ملاحظاً تزايد عدد مواطني دولة الاحتلال الذين يصطفون أمام السفارات الأوروبية من أجل الحصول على جوازات سفر أجنبية.
وتظهر بيانات إحصائية لدى العدو أن 24 ألفا و900 إسرائيلي غادروا البلاد منذ تولي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السلطة في تشرين الثاني 2022 قبل «طوفان الأقصى»، بزيادة قدرها 42% عن السنوات السابقة التي سجلت 17 ألفا و520 حالة مغادرة، كما زادت نسبة الراغبين في الجنسيات البرتغالية والألمانية والبولندية، وأعلن مكتب الاتحاد الأوروبي زيادة عدد «الإسرائيليين» الراغبين في الحصول على جنسيات أوروبية. من جهة أخرى تضاعف عدد «الإسرائيليين» الذين هاجروا إلى كندا منذ بداية الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023، ووصل إلى أكثر من 10 آلاف هاجروا إلى كندا هذا العام، في حين حصل حوالي 8 آلاف «إسرائيلي» على تأشيرات عمل، وهي زيادة كبيرة عن أعداد العام الماضي. وكانت كندا أصدرت 3425 تأشيرة عمل مؤقتة للإسرائيليين من أصل 3705 طلبات قُدمت منذ كانون الأول 2023 وحتى نهاية أيلول الماضي، وذلك بحسب بيانات وزارة الهجرة الكندية.
السؤال الكبير هو ماذا ستفعل هذه الدولة بهذا السياق من الانحدار السكاني بسبب الهجرة العكسية القائمة اليوم وهي كما نعلم قامت على هجرة يهود العالم من الخزر وغيرهم من شذاذ الآفاق الى بلادنا …وماذا سيكون مصيرها في الخلل الديمغرافي القادم رغم عمليات الإبادة الجارية من هذا العدو ضد الفلسطينيين في غزة والضفة؟؟