حريّة المرأة

حريّة المرأة

إن ارتقاء أي مجتمع إلى درجة عالية من التمدن والازدهار يرتكز على ممارسة حريّة الفكر والتصرف التي تضخّ الوعي والنضج في عقول أبنائه، وتحرك إرهاصات النهضة في مفاهيمهم، سواء أكانوا رجالاً أم نساء. كما وتُرغّب كل منهم في ممارسة دوره الحيوي في إنجاز المشاريع البناءة، وتشكيل وحدة الحياة القائمة على معاني الحق والخير والجمال والمرشدة إلى التطور والرقيّ. فهذه الحريّة هي حاجة ضرورية للمجتمع وأساس للحياة المثلى، لا بل “هي الحياة ومن لا ينهض لنيل الحرية خوفاً على حياته خسر الحرية والحياة معاً.”[1]

الحرية تسوّغ للمرأة تأدية مهامها وتعزيز مكانتها في الميدان المجتمعي. وهي للمرأة المنارة التي تنير ذهنها وتوهجّ ملكاتها، وتدفعها لإظهار مواهبها العقلية واستخراج كنوزها الفكرية. هي القوة المحفِّزة التي تحضّها على التحرر من المركبات التقليدية، والقيود التحكمية التي تكبل حركاتها محجمة تطلعاتها ومهلكة قواها ومشتتة قدراتها. إن الحريّة تشدّ أزر المرأة على بلوغ الغايات ومواجهة التحديّات، حيث تحثّها لتشق بصلابة دروب الحياة العريقة التي توافق طموحاتها وتلائم شخصيتها. فتصقل نفسها بانية ذاتها، وتحلّق في رحاب أفكارها متبصّرة مستقبلاً مشرقاً يجسّد مرادها.

الحريّة تشجع المرأة على الانخراط مع الآخرين والانضمام إلى المؤسسات الثقافية، ممّا يدفعها إلى التفاعل الإجتماعي الذي يخوّلها القيام بدور بالغ في العمل الاجتماعي – الإنساني – التنويري الهادف إلى ترسيخ القيم الإنسانية والمثل العليا في العائلة والمجتمع. الحرية للمرأة هي أساس التقدّم والارتقاء، فإنها أبعد من أن تكون رحلة ترفيهية تتأمّل فيها المرأة المناظر الخلّابة وتتجوّل في الأماكن الأخّاذة، وأعمق من أن تكون غشاء ذا شفّافيّة تدرك المرأة منه ظاهرية الأمور البراقّة وتتبيّن محاسن ملمسه الحريريّ.

حينما تتمكن المرأة من البحث في صميم المواضيع والغوص في حيثيّاتها، ومن الاعتماد على منهجية التخطيط الحضاري مع المحافظة على جمال التراث والأصالة عند التفكير في الحداثة، فهي ترصّع دورها بدُررِ الدقة والإتقان، وتشارك مشاركة واعية ناضجة هادفة لبناء الإنسان الجديد، وهادية إلى المجتمع المتحضّر. إن مساهمتها بشكل فعّال في إنشاء الصرح المجتمعي تحثها على اتخاذ القرارات الأساسية الحرّة، والمثابرة على تحقيقها مهما استلزمت من تضحيات لتطبيقها.

إن القرارات الهامة التي تتخذها المرأة تنعكس نتائجها مباشرة على نجاح الأعمال التي تنجزها. فإن كانت هذه القرارات متخذة بحذاقة وحكمة ستكون صائبة وستحصد نتائجاً جليلة من الفوز والتفوق، أما إن كانت مقررة برعونة وسطحية ستنعكس نتائجها سلبياً على حياتها ومجتمعها معاً. فالحرية تهدي المرأة إلى البحث والتنقيب عن ثغرات ومحاسن قرارها، وإلى الإلمام بجوانب كل عمل تقوم به وبالنتائج المترتبة عليه. فبقدر ما تعزّز الحرية القدرات الفكرية والجسدية للمرأة، فهي تستحثها على الالتزام بألباب الأمور ورِفعة الأهداف، والتعالي عن القشور السطحيّة والغايات الزهيدة، حيث لا ينبغي أن تتفوّق العرضيّات على النُخُبات. المرأة هي عضو هامّ تشارك الجماعة في إبداء الرأي وتنفيذ العمل، فحينما تظهر أناقتها في اعتماد الرأي الحكيم وجمالها في تِبيان محاسن العمل الرصين، تكون حريتها حرية لضميرها وعقلها، واستقامة لأفكارها وتصوراتها.

الحرية للمرأة هي مسؤولية راقية رصينة واعية تسير بها نحو المستوى الرفيع والحياة الأمثل، وتُبيح لها تطبيق الأفكار البناءة، وإنجازها في أطر منتجة ومناقبية خلّاقة. عندها تبرز المرأة جوهر شخصيتها، وتمارس دورها في تنشئة جيل نهضوي مشاركة في تشييد مجتمع مثالي. كما قال المفكر أنطون سعاده: “نحن لا نريد الحرية لمجرّد الحرية والتفلت من كل واجب وكل مسؤولية، بل نريد الحرية لننشئ المجتمع المثالي الموضوعة قواعده في مبادئنا. نريدها لنعمل للحياة المثلى لا لمجرّد العيش.”[2] 

زكية سكاف النزق


[1] أنطون سعاده، استقلال مراكش الإسبانية، المجلة، سان باولو، السنة 11، الجزء 2، 01/3/1925.

 

 [2]- أنطون سعاده، سورية الجديدة، سان باولو، العدد 63، /27 /4/1940

* الكاتبة زكية سكاف النزق محامية من بلدة عدبل (عكار) اللبنانية، مقيمة منذ عام 1994 في مدينة ملبورن، أستراليا. صدر لها كتاب “ركائز الحياة” عام 2015.