لسانٌ عربي لهويةٍ سوريّة

اللغة، ذاك العنصر الرئيس في حياة الأمم، النتيجة الحتميّةُ، الضرورة الوسيلة، لتكون المعبّرةَ الناقلةَ لإرثها الأدبي الثقافي، ومخزونها التفاعلي الحي، من أحداثٍ ووقائع محفوظة في سجل تاريخ الأمم، مدوّنةً بلسانها أو ألسنتها، نُطقاً وخطّاً وحفراً، متباينةً في طرائقها، متصارعةً على الغلبة في ما بينها، جرّاء صراعٍ حضاريٍ سببيٍ مُستدام، تطغى عليه نمطياتُ التفاعل والحاجة إلى التقدّم والارتقاء. لذا، كانت اللغة “وسيلةً من وسائل قيام الاجتماع، لا سبباً من أسبابه” (1). 

ولقد كانت سورية، البيئة الفُضلى التي امتزجت وانصهرت فيها كل الجماعات التي نزلت بأرضها، حيث حوّلتها من مزيجٍ لمزاجٍ واحدٍ في شخصيةٍ واحدة. وعلى مدى تاريخها الذي تعاقبت فيه الحضارات والشعوب، تعاقبت اللغاتُ واللهجاتُ وأفادت من بعضها البعض، وتطوّرت الواحدة عن سابقتها حتى خلُصت في ما بعد إلى العربية الفُصحى التي نعرف، من خلال سعة انتشارها العام، وفرادة مكنوناتها اللغوية. 

وفي ملخّصٍ لمراحل نشأتها وتطورها، نرى أنها مرّت بثلاث مراحل: 

1. الأولى:  pre’- Arabic،  التي سبقت ظهور اللغة العربية، وكانت جزءاً من اللغات السائدة، ولم تكن تشكّل بعد لغةً مستقلة. 

2. الثانية: proto – Arabic، مرحلة  استقلالية العربية؛ إذ أظهرت تميّزها واستعدادها لأن تكون لغة كتابةٍ وشِعر. 

3. الثالثة: حيث تحوّلت فيها إلى لغةٍ أدبيةٍ تتمثّل في لغة أدباء الجاهلية”(2).

وقد أكّدت بدايات الخط العربي، عبر البحث والاستدلال الأثري “أن الخط العربي الأول، الذي كتب به أهلُ الحجاز قبل الإسلام وبعدهُ، مشتقٌّ من الخط النبطي الذي هو – بدوره – مُشتقٌّ من خط بني أرم في بلاد الشام، بما لهم من روابط وثيقة بهم تاريخيةٌ وتجارية”(3). وبني أرم هم الآراميون السوريون، فإذا سادت إحداها على حساب الأخرى، فالسبب يكمن في “أن اللغتين من شُعبةٍ لغويةٍ واحدة”(4).

وعلى ما تقدّم إيضاحاً، يزيدنا سعاده يقيناً  ووضوحاً، ويقول بأن سورية: “أمّةٌ مستقلةٌ تتكلّم اللسان العربي العزيز عليها، ليس لأنه اللسان الذي فُرض عليها بعامل الفتح الديني، بل لأنها أنتجتهُ من نفسيتها وعقلها، وغذّتهُ بإنتاجها وثقافتها، فهو عزيزٌ عليها بما يشتملُ عليه من فِكَرٍ  نفسيّةٍ وأدبٍ سوري”(5)؛ بل إن هذا ما أرّخ لهُ مجملُ علماء اللغة والتاريخ، فالسوريون هم نواةُ الحرف والهجاء ورائدو الثقافة منذ أن بدأ العقل الإنساني فعلاً وتطبيقاً. كيف لا؟ وهم الذين نقلوا لاحقاً عُصارة علوم أمتهم، وترجموها – بالإضافة إلى علوم الأمم الأُخرى من يونانيةٍ وفارسيةٍ وهندية – إلى اللغة العربية، ويكفينا أن بلادنا شكّلت الحيّز الطبيعيّ لتقعيدها، كما أنّ الكوفة والبصرة من أرضنا شكّلتا ساحة لتطوّر هذا اللسان وتنظيمه. ولذلك أيضاً يشيرُ سعاده قائلاً: “إن قيمة اللسان العربي لنا، وقيمتنا نحن ضمن هذا اللسان، هي بمواهبنا وبما نتج من تراث سوري فكري أدبي بهذا اللسان، بحيث أصبح السوري يجد فيه التعبير عن أساسه وإدراكه وفهمه، فهو قد صار خزانة النفسية السورية وثقافتها..”(6).

أيها السوريون القوميون الاجتماعيون،  

ها هو العالم يحتفي باليوم العالمي للغة العربية، تكريماً لها، وما أنتم إلا حماةً لها أنشأتم وكتبتم ونقلتم فيها ومن خلالها، هذا الكمّ الهائل والميراث الفاعل، في وجدان أمتكم والإنسانية جمعاء. 

فافخروا ببناء أسلافكم وجهدهم وجهادهم، ونهضتكم أنتم التي أستمديتموها روحاً من مواهب سورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي، ولأنَّ البونَ دقيقٌ،  بين تحديد الهوية وواقع  اللغة، فتمسّكوا بهويتكم، وكرّموا لُغتكم، ففيها خطّ الفادي مبادئ هدايتكم، مُحدداً لكم هويتكم.

ولو كَرِه الكارهون…

عُمدة الإذاعة.

1- سعاده ، أنطون، نشوء الأمم.a ص 159 .

2- عابدين، د. عبد المجيد ، المدخل الى دراسة النحو العربي على ضوء اللغات السامية، ص 33 ، بغداد 1978.

3- دلّو ، برهان الدين، جزيرة العرب قبل الإسلام ، ص 229 ، بيروت ، 1989. 

4- عبد الدائم ، علاء ، الصراع اللغوي بين الحضارات السامية القديمة ، مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية ، مجلد 2، العدد 1، حزيران 2012. 

5- سعاده، أنطون ، المحاضرات العشر،  ص 107. 

6- المصدر السابق نفسه. ص 108.