سيادة الدولة القومية وتداعياتها – الحلقة الخامسة

سيادة الدولة القومية وتداعياتها – الحلقة الخامسة

المحور الثالث

الأخطار التي تهدد مضامين سيادة الدولة

السؤال: إلى أي مدى يتطابق مفهوم السيادة مع تنفيذها، وهل كل الدول تتمتع بالسيادة المطلقة، أم أن السيادة شأن نسبي؟

يقول د. علي الشامي: إن السيادة كمفهوم قانوني شيء، وكواقع وممارسة شيء آخر. وهذا يفسر لنا ان العلاقة بين الدولة والسيادة ليست علاقة مطلقة، وإنما هي نسبية، من هنا فلا يصح اعتبار مجرّد وجود الدولة كافيا لارتباطها بمفهوم السيادة المطلقة، بل أننا نجد دولا عدّة ناقصة السيادة، بفعل عوامل داخلية أو خارجية، فلا هي تتمتع بالاستقلال التام أو المساواة التامة.

إذا، نحن أمام نوعين من الدول، الأولى تتمتع بسيادة تامة مطلقة، والثانية، باختصار، ناقصة السيادة، فما هي عناصر كل من هذين الظاهرتين:

أولا: الدول التامة السيادة

تتمتع هذه الدول بسيادة كاملة أي بالاستقلال والمساواة، وجميع الاختصاصات والحصانات الدولية. والسيادة التامة الكاملة في هذه الدول هي وحدها مصدر الاختصاصات الصلاحيات والحصانات، وبتعبير أدق إن الدول صاحبة السيادة تحدد صلاحياتها بذاتها دون تدخل أي جهة خارجية، مهما كانت مرجعيتها.

أما الصفة الأبرز لهذا النوع من الدول فهي القوة، وفي نادي «الدول القوية» تدخل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي التي منحها نظامه امتيازات خاصة، من أبرزها حق النقض للقرارات الدولية، التي تتنافى ومصالحها في معنى سيادتها.

ويبقى أن نشير إلى أن مفهوم السيادة المطلقة تعرض لانتقادات، خصوصا، في مجال التحديد للصلاحيات ومصدرها، ومن أبرز المنتقدين في هذا الاتجاه المدرسة السوسيولوجية التي اعتبرت أن هذا المفهوم المطلق للسيادة هو مفهوم خطر وضد كل منطق حقوقي محلي أو دولي، إذ أن مبدأ الذاتية في تحديد صلاحيات السيادة، غالبا ما يقود إلى استغلاله في تأمين مصالحها وأهوائها عبر اللجوء إلى شن حروب التعدي والاغتصاب ضد الدول الناقصة السيادة، أو الضعيفة في قواها الردعية. أما الحل الذي قدمته المدرسة السوسيولوجية لهذه الإشكالية، التي عصفت بدول العالم، فقد قام على أساس اعتماد «النظام الدولي» الذي له وحده الحق في امتلاك السيادة المطلقة. وبناء عليه فقد نص ميثاق «هيئة الأمم المتحدة» في مادته الثانية، على هذا المخرج، بقوله: «تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها»!؟

ثانيا: الدول الناقصة السيادة.

هي الدول التي تحتكر اختصاصاتها وصلاحياتها وحصاناتها دول من فئة السيادة التامة. تقع الدول الناقصة السيادة في خانة الدول الخاضعة لسيادة أعلى منها، وتتعدد مظاهر الخضوع ومنها: الاحتلال، السيطرة، الوصاية، الانتداب، الحماية… وحتى الحياد.

السؤال: إلى أين سيقودنا هذا الصراع الحتمي بين سيادة الدول، أو بتعبير آخر ما هي الأخطار التي تهدد مضامين سيادة الدول؟ وما هو مستقبل السيادة القومية؟

أن لائحة الأخطار التي تهدد سيادة الدول على الصعيدين الداخلي والخارجي، لائحة تطول وتطول، ولكن من أبرز عناوينها: انتهاك سيادة الدولة، الاعتداء على السيادة، اغتصاب السيادة، خرق السيادة، المعاهدات والوعود السياسية الدولية غير المحقة ( الباطلة)، الاستعمار، الاستعباد، فرض الوصايات، الحروب… التنازل عن السيادة، فقدان السيادة، الحروب الداخلية (الاقتتال)، تصادم «السيادات» داخل الأمة الواحدة المجزأة، العنصرية، نزاع الطوائف والاتنيات، القبول بالامر المفعول أو المفروض، الفوضى، الفساد، الجهل، الإقطاع، الظلم…

لعل مبدأ «القوة المتغلبة» هو من أخطر المبادئ التي تحكمت بالعلاقات الدولية، عبر التاريخ السياسي الطويل للإنسانية، وقضى هذا المبدأ بفرض إرادة الدول القوية ونفوذها وسيادتها على الدول الأضعف، تأمينا لمصالح القوي اقتصاديا وثقافيا …

ويتبع حكما مبدأ «القوة المتغلبة» مبدأ آخر لا يقل عنه أهمية، هو مبدأ «سياسة الأمر الواقع».

ألم يقم عصر الإمبراطوريات الكبرى الدينية والسياسية على مبدئي «القوة المتغلبة» و«سياسية الأمر الواقع»؟ فأقدمت هذه الإمبراطوريات على استغلال قواها العسكرية الغاشمة في استباحة الحقوق القومية واغتصاب سيادة الدول في المجتمعات الضعيفة والتغلب عليها واستعمارها واستعبادها، وتغيير حدودها، والعبث بتراثها، ونهب خيراتها وتنصيب الإقطاعيين والملوك والفوضويين وأحيانا المجرمين على عروش التبعية والذل ومصادرة الإرادة والسيادة والقضاء على الحرية والديمقراطية. والتحكم بالضعفاء المغلوب على أمرهم؟

والإمبراطوريات الأربع الأخيرة في التاريخ: الألمانية، النمساوية، الهنغارية، الروسية والعثمانية، التي صالت وجالت، عربدت واستبدت، وانتهكت حرمة سيادات الدول وحريتها، ألم تسقط في الحرب العالمية الأولى (1914 -1918) بنفس السلاح الذي قامت به: سلاح «القوة المتغلبة» وسياستها، ورزحت بدورها تحت نير سياسة «الأمر المفعول»، في حتمية أنّ التاريخ قد يعيد نفسه في بعض المراحل والأزمنة؟

وهل قامت سياسة الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، على قاعدة الأهداف التي رسمت لها في «عصبة الأمم» أم أن فرنسا وبريطانيا اتقنتا فن السياسة المتغلبة، التي لم ينج منها، حتى الحلفاء، ومن بينهم: ايطاليا واليابان، فضلا عن الدول الضعيفة المنهوكة باستعباد الإمبراطوريات الكبرى، فضرب بحق الشعوب المقدس وسيادته عرض الحائط والمستقبل المجهول. وفرض على أمتنا السورية أبشع أمر واقع عبر معاهدة «سايكس  ـ بيكو» عام 1916، و «وعد بلفور» السياسي اللاحقوقي عام 1917، وما ترتب من تداعيات على هذا «الأمر الواقع» من تقطيع أوصال الأمة الواحدة إلى «دول» متعددة السيادات التي تدور على محاور غير طبيعته، مما أدى إلى تصادم هذه السيادات في حروب داخلية عبثية مدمرة؟

وألم تكن سياسة بريطانيا وفرنسا المتغلبة هي المسؤولة عن إقحام العالم مرة أخرى في حرب عالمية ثانية، أكثر عنفا ودمارا وويلات على البشرية من سابقتها الحرب الأولى؟

ان «السياسة المتغلبة» المدعومة بالقوة المتغلبة الباطلة، هي التي رسمت خريطة العالم بعد الحرب على أسس «الأمر الواقع» طبقا لمصالحها، ونقضا لمبادئ «السلام العالمي الدائم» فأوجدت دولا لم تكن قائمة وألغت أخرى كانت موجودة وتتمتع بالسيادة، وفرضت على ما يسمى «بالعالم الثالث» أمرا مفعولا، ضاربة بالحائط بكل المبادئ والقيم الدولية.

 وفي مثل كل مرة كان على الأمة السورية أن تدفع فاتورة الحرب و «السلام»، فكان الانتداب  ـ الوصاية على بلادنا «ثوبا خلقيا لفتح همجي» تحضيرا لعملية زرع مرض سرطاني  ـ عنصري  ـ صهيوني في الجزء الجنوبي من الهلال السوري الخصيب، تمهيدا لليهود للفتك بالجسم كله، وإلغاء سيادته القومية، انطلاقا من الغاء وجوده الحقوقي.

واندلعت الحرب العالمية الثانية، وانهزمت دول كانت منتصرة سابقا، وانشئت «هيئة الأمم المتحدة» للمحافظة على السلام الدولي كبديل عن «عصبة الأمم» التي هدرت «السلام» على مذبح «السياسة المتغلبة» لمحور لندن  ـ باريس، ولكن ما كانت النتيجة؟ لقد توافقت الدول الغالبة على حفظ مصالحها في «مجلس الأمن» وبشكل جنوني فاق كل توقعات الحروب. ومن أروقة «مجلس الأمن» انبعثت خديعة «الحرب الباردة»، فاذا هي حرب مدمرة تنتهك فيها حرمة سيادات الدول واستقرارها وحريتها ولنا من حروب الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها خير دليل على ما نقول. لقد أدمنت واشنطن سياسة التعدي بعد الحرب العالمية الثانية من القاء قنبلتين ذريتين على اليابان وتدمير كمبوديا، وتخريب فيتنام.. إلى دعمها للأنظمة القمعية في أميركا اللاتينية وافريقيا والهند الصينية والعالم العربي.. وأخيرا في افغانستان والعراق، مرورا بالسودان وكوسوفو وتيمور الشرقية والبوسنة والهرسك، انه سجل حافل من التعدي على سيادات الدول وخرق حرماتها وتدمير بناها وإذلال شعوبها فضلا عن قتل عشرات الآلاف من الأبرياء.

لقد نالت الأمة السورية النصيب الأكبر من السياسة الدولية المتغلبة التي تفردت بها الولايات المتحدة الأميركية فأطلقت يد العصابات الصهيونية الإرهابية الإجرامية المتمثلة «بدولة إسرائيل» تخطف فلسطين وتفرض عبر حروبها العدوانية الالغائية أمراً واقعاً جديداً، وتنتزع المكاسب الإستراتيجية في «السلام» بعد أن عجزت عن ذلك في الحروب، واليوم عبر «السياسة المتغلبة»، أيضاً، تحاول «إسرائيل» مدعومة بقوة الشر العالمية، العمل على إلغاء «المسألة الفلسطينية» نهائيا، وفرض سياسة الأمر الواقع على باقي كيانات الأمة السورية، تمهيدا لتهويد «أرض الميعاد من النيل إلى الفرات»؟!.

ولا يمكن لأي أمة، وخصوصا أمتنا السورية وعالمها العربي، ان تتغلب على منطق «السياسة المتغلبة» إلا بسياسة متغلبة أقوى، تحفظ فيها حياتها وتفرض بها إرادتها، وتثبت بموجبها سيادتها القومية وتحتل مكانها اللائق بها في منظومة الدول الحرة التي تتعاطى مع بعضها البعض على مبادئ المساواة والاستقلال والحرية والسيادة القومية.

إزاء ما تقدم، ما هو مستقبل السيادة القومية؟

مستقبل السيادة القومية:

اذا كانت السيادة القومية في منظومة الدول هي النظرية (Thèse ) والأخطار المحدقة بها هي النظرية المضادة ( ِِAnthithèse ) فما هي المخارج (Synthèse ) التي يتوقعها الباحثون، في هذا المجال، لمستقبل السيادة القومية ثباتا واستمرارا أو زوالا وانعداما.

تتوزع هذه المخارج، وأحلاها مر على الدول الضعيفة، بين أربعة سيناريوهات: استمرار السيادة، الحكومة العالمية، اختفاء السيادة وتفكيك السيادة.

يتوقع المؤيدون «لاستمرارية السيادة» على بقاء الدول ذاتها، مع الإشارة إلى أن أقصى ما يترتب على هذه السيادة، من التطورات الجارية في النظام الدولي، هو استهداف الوظائف أو الأدوار.

في المقابل، يراهن القائلون «بالحكومة العالمية» على «تنازل الدولة القومية عن سيادتها لصالح حكومة عالمية منبثقة من نظام عالمي ديمقراطي».

نرى في المقابل، أن أصحاب نظرية «اختفاء السيادة» ترتكز توقعاتهم على اختفاء «الدولة القومية» ذاتها، أي على زوال الفكر القومي القائم على وجود الأمة، ليحل مكانها ما يسمى بالشركات المتعددة الجنسية، التي سيكون دور الدولة فيها خدمة المصالح المسيطرة للشركات الدولية العملاقة الاحتكارية.

ويبقى سيناريو تفكيك الدول وسيادتها، هو الأخطر، لأنه الأسهل على الدول القوية تحقيقه والأصعب على الدول الضعيفة مقاومته. ويقضي هذا «السيناريو» بتفكيك الدول الضعيفة، عبر الحروب الأهلية والنزعات الانفصالية إلى دويلات فاقدة معاني السيادة الحقيقية خاضعة «لهويات» سلالية، أو «ثقافية» أو طائفية، أو أثنية أو عنصرية.. على أن تستخدم هذه الدويلات كأدوات طيّعة في خدمة مصالح الدول القوية وارادتها.

والأشد خطورة في هذا السيناريو التفكيكي، هو ارتكازه على بعض قرارات الشرعية الدولية التي أعطت الصفة القانونية الدولية لهذه الحالة مثل «معاهدة سايكس ـ بيكو» و«وعد بلفور».

باختصار، ان الأخطار التي تهدد مضامين سيادة الدولة هو ضعفها في الدرجة الأولى، فكل أمة تريد أن تكون سيادتها محترمة، عليها ان تعتمد على مبادئ القوة في مظهرها المادي  ـ الروحي. فالقوة وجدت لتدعيم الحق، ولا يصح العكس، بمعنى أن الحق ليس للقوة، وهذا ما اثبتته دروس التاريخ لكل من له عقل يعي، فلا سيادة حقيقية بدون دولة قوية قائمة على أساس حقوقي.

إلا أنه في عصر تنازع موارد الحياة والتفوق بين الأمم، ما هي الحلول المقترحة لتثبيت سيادة الدول؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *