مشروع سعادة النهضوي – الحلقة الثالثة

مشروع سعادة النهضوي – الحلقة الثالثة

ثالثاً، النهضة الفكرية والاجتماعية

النهضة الفكرية والاجتماعية تحتل مكانة مركزية في مشروع أنطون سعاده النهضوي، حيث يراها الأساس الذي تقوم عليه عملية التحرر من الفوضى الفكرية والانحطاط الاجتماعي. ينطلق سعاده من رؤية واضحة تعتبر النهضة مشروعاً فكرياً منظماً يهدف إلى تجاوز التشتت والارتباك، ويسعى إلى تحقيق وضوح في الأهداف وإيمان بالذات القومية. فهو يؤكد أن النهضة الحقيقية ليست مجرد شعارات أو كلام غير منظّم، بل عملية صعود مستمر نحو بناء أمة تمتلك وعياً ذاتياً وتعمل بعزيمة لتحقيق أهداف واضحة، إذ أن النهضة هي خروج من التفسخ والبلبلة إلى الوضوح والإيمان والعمل بعزيمة صادقة.[1]

يرى سعاده أن الفكر القومي الصحيح يجب أن ينبع من الذات القومية السورية، بعيداً عن استيراد الأفكار بشكل أعمى من الخارج. لأن الاعتماد على الفكر المقتبس يعوق تشكيل هوية قومية متماسكة، ويحوّل المبادئ القومية إلى أدوات تخدم المصالح الضيقة، مما يؤدي إلى تشويه القومية ذاتها. لذا، كان سعاده واضحاً في دعوته إلى تبني عقيدة قومية اجتماعية واضحة ونابعة من احتياجات الأمة، قادرة على تحصين المجتمع ضد التأثيرات السلبية للفكر المشتت والمستورد.

من أبرز ما واجهته النهضة القومية الاجتماعية هو الفكر الرجعي، الذي رآه سعاده بلية الأمة الكبرى. يتمثل هذا الفكر في العقلية الاتكالية والانحطاطية التي تسعى إلى الحفاظ على النفوذ الطائفي والعائلي، وتستخدم شعارات “وطنية” أو “قومية” زائفة تخدم أغراضاً طائفية ضيقة. وأكد سعاده أن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بمجرد تغيير في الألفاظ، بل بالقضاء على جذورها من خلال تأسيس فكر قومي يعزز الوحدة ويرسخ الشعور القومي الصحيح. فمحاولات الالتفاف حول الطائفية بالإبقاء على أهدافها بينما تُخفى تحت قناع “قومي” أو “وطني”، هي مجرد تكتيكات تقود الأمة إلى الكوارث وتهدف لإبقائها في حالة من التراجع، والفوضى والتفسخ والانحطاط.

آمن سعاده بالعقل الواعي وأهمية التفكير المنهجي كدعائم لنجاح النهضة. ورأى أن النهضة الحقيقية تعتمد على العلم والفكر النقدي، فهي “تعني وضوحاً وجلاء وصراحة.”[2] لذلك كان هجومه شديداً على التفكير الرجعي – السطحي الذي يسيء استخدام العلم ويحوّل مبدأ القومية إلى وسيلة لتبرير مصالح قديمة. دعا سعاده إلى تبني منهج علمي يعزز الحرية الفكرية ويشجع النقاش المفتوح، لأن الإبداع لا يمكن أن ينمو في بيئة مغلقة تفرض آراء جامدة، بل يحتاج إلى فضاء حر يتيح للحقائق أن تظهر وتُناقش بوضوح وشفافية.

بهذا المعنى، كانت النهضة في فكر سعاده مشروعاً تحررياً يسعى إلى كسر قيود الرجعية والطائفية. فهو يصف الحركة القومية الاجتماعية بأنها حركة صراع لأنها تمثل حرية الأمة، وحركة انتصار لأنها تقوم على الحق والواجب. وفي نظره، لا يمكن للأمة أن تتقدم إلا عندما تتحرر من دوائر الانعزال الضيقة، وتتحول إلى فضاء قومي شامل يوحد الأرض والشعب في وحدة حياتية متماسكة.

خلاصة القول، إن النهضة الفكرية والاجتماعية عند سعاده كانت مشروعاً شاملاً لتحرير العقل من الخرافات والأفكار السطحية، وإعلاء شأن الفكر النقدي والعلمي، وتجاوز الانقسامات الطائفية التي تهدد وحدة الأمة. لقد دعا إلى بناء مجتمع متقدم من خلال العلم والحرية الفكرية، وتطوير الأفراد عبر التعليم المستمر والبحث الدقيق. وفي مواجهة الفكر الطائفي والرجعي، شدَّدَ على أن النهضة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا عبر التحرر من الانقسامات الفكرية والتقليدية، واستعادة الوعي القومي الأصيل الذي يوحّد الأمة حول مشروع نهضوي شامل.


[1]  أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 36.

[2] أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 36.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *