تبدو الهمجية الصهيونية واحدة في قطاع غزة وفي لبنان. الإجرام هو نفسه، لا يأبه للقوانين الدولية والشرائع الإنسانية والأخلاقية ويطال مناحي الحياة كافة لاسيما الصحية والاستشفائية والإسعافية. فالعدو لا يتوانى عن قصف واستهداف الطواقم الطبية والمسعفين والمستشفيات التي يجعلها مضطرة للإقفال أو معالجة المصابين والمرضى في ظروف صعبة جداً ووسط نقص هائل في المستلزمات الطبية وفي أعداد الممرضين والأطباء والعاملين في المجال الصحي. هذا فضلاً عن استهداف الوحدات الطبية وسيارات الإسعاف عن عمد مما يعتبر دون شك جريمة حرب.
في لبنان كان النظام الصحي يرزح أصلاً تحت ضغط هائل بسبب الظروف الاقتصادية السائدة، وبسبب الأزمات المتتالية مثل جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت، والتحدي المتمثل في الحصول على وقود لتشغيل مولدات المستشفيات فضلاً عن الاحتياجات الاستشفائية والدوائية العالية. ونتيجة ذلك بات الوصول إلى الرعاية الصحية يشكل صراعاً حقيقياً للجميع في لبنان، ولكن بالطبع يكون الصراع أكبر في المناطق التي هوجمت فيها المستشفيات.
هذا الوضع دفع الناطقة باسم منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس إلى الإعراب عن «قلق بالغ» من الهجمات «الإسرائيلية» التي تطال مرافق صحية وعاملين في القطاع الصحي في لبنان. وذكرت في جنيف «نشعر بقلق بالغ جراء الهجمات المتنامية على عاملين في المجال الصحي ومنشآت صحية في لبنان»، مؤكدة أن «العاملين في المجال الصحي يعانون من الإجهاد والنزوح، في وقت تشتد الحاجة إليهم». وقالت «نجدد التأكيد مراراً وتكراراً أن الرعاية الصحية يجب ألا تكون هدفاً وأن العاملين في المجال الصحي يجب ألا يكونوا هدفاً».
إدانة الأعمال العدائية حيال الجسم الطبي في لبنان جاءت أيضاً من قبل منظمة «هيومن رايتس ووتش» التي أشارت إلى أن الجيش «الإسرائيلي» هاجم بشكل متكرر وغير مشروع كوادر طبية ومرافق صحية في لبنان ما «ينطوي على جرائم حرب مفترضة». ودعت في تقرير لها جيش العدو إلى وقف الهجمات غير القانونية على الطواقم والمنشآت الصحية فوراً، كما دعت حلفاء «إسرائيل» إلى تعليق نقل الأسلحة إليها «نظراً إلى الخطر الحقيقي المتمثل في استخدامها لارتكاب انتهاكات جسيمة».
ولغاية تاريخه وثّقت وزارة الصحة اللبنانية، استشهاد 163 عاملاً في القطاع الصحي والاستشفائي في لبنان خلال العام الحالي. أما الحصيلة الإجمالية للشهداء من المسعفين منذ بدء العدوان فارتفع إلى 178 شهيداً، وعدد الجرحى إلى 279 جريحاً، وعدد الآليات المستهدفة إلى 246. وأصابت بأضرار 158 سيارة إسعاف و55 مستشفى.
في هذا كله يتذرع العدو الصهيوني باستمرار باستخدام سيارات الإسعاف لنقل المسلحين، والمستشفيات بإخفاء الأسلحة والعتاد وذلك تبريراً للتعرض لها واستهدافها. إلا أن «هيومن رايتس ووتش» لم تجد أي دليل على استخدام هذه المنشآت لأغراض عسكرية بما يبرر حرمانها من الحماية بموجب القانون الإنساني الدولي. أكثر من ذلك، ذهبت هذه المنظمة إلى القول إن «العضوية في حزب الله»، كذلك أي حركة سياسية لديها جناح عسكري، أو الارتباط به، ليس مبرراً كافياً لجعل الشخص هدفاً عسكرياً مشروعاً.
وأكملت المنظمة بأن توجيهات «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» تنص على أن الأشخاص الذين يؤدون وظائف غير قتالية حصراً في المجموعات المسلحة، بما فيها الوظائف السياسية والإدارية، أو الذين هم مجرد أعضاء في جماعات سياسية لديها جناح عسكري، مثل «حزب الله» أو مرتبطين بها لا يمكن استهدافهم في أي ظرف.
وتوصلت المنظمة إلى نتيجة بأن العاملين الطبيين المنتسبين إلى «حزب الله»، بمن فيهم العاملون في هيئات الدفاع المدني، يتمتعون بالحماية بموجب قوانين الحرب. ووسط كل هذه الانتهاكات وكل الإدانات من المنظمات الدولية، لم يرتدع جيش بنيامين نتنياهو من ممارسة همجية وإجراماً لم نشهدهما في تاريخ الحروب التي شهدتها البشرية.
قطاع غزة
في قطاع غزة ليس المشهد أقل وطأة، بل أكبر حجماً وتضرراً ومأساوية وإجراماً على القطاع الصحي الذي يرزح تحت وطأة الاعتداءات الصهيونية منذ أكثر من 13 شهر. فالمستشفيات والمراكز الصحية والمنشآت وسيارات الإسعاف والكوادر والمستلزمات الطبية هي أسيرة العدوان الصهيوني اليومي مما يجعل الأمور في غاية الصعوبة.
وتكشف التقارير الإعلامية، لاسيما الغربية منها أن «إسرائيل» تعمدت مهاجمة المستشفيات في قطاع غزة من دون تقديم أي دلائل على وجود أنشطة عسكرية فيها، ما تسبب بدمار هائل وعدد ضخم من الضحايا فضلاً عن نشر الخوف بين الفرق الطبية والمرضى.
في قطاع غزة الأرقام تتكلم وتشهد على انهيار القطاع الصحي: 12 ألف جريح بحاجة للسفر للعلاج في الخارج، 10 آلاف مريض سرطان يواجه الموت وبحاجة للعلاج، 3 ألاف مريض يحتاجون للعلاج في الخارج، 60 ألف سيدة حامل معرضة للخطر لانعدام الرعاية الصحية، 350 ألف من ذوي الأمراض المزمنة في خطر بسبب منع إدخال الأدوية، 310 شهداء من الكوادر الصحية، 34 مستشفى خارج الخدمة، 80 مركز صحي خارج الخدمة، 162 مؤسسة صحية استهدفها الاحتلال، و131 سيارة إسعاف استهدفها الاحتلال.
ورغم ادعاء الكيان الصهيوني، الذي تعمد استهداف المستشفيات عامة بكثافة عالية، أن هجماته على المستشفيات إنما تتم لضرورة عسكرية لأن «حركة حماس تستخدمها كقواعد قيادة وسيطرة للتخطيط للهجمات»، هذه الادعاءات لم تقدم «إسرائيل» أي دلائل بشأنها.
ورغم تمتع المستشفيات بحماية خاصة بموجب القانون الدولي إلا أن العدو الصهيوني يشن حملات مفتوحة على المستشفيات ولا يتوانى طيرانه عن الإغارة عليها. وقد عمد إلى مداهمة ما لا يقل عن 10 منها في مختلف أنحاء القطاع فضلاً عن توجيه الضربات العسكرية لها. وذهب جيش العدو إلى حد إطلاق القذائف عليها واقتحامها بالجرافات واعتقال الفرق الطبية وسحق خيام النازحين بالمستشفيات وإذلال المرضى والفرق الطبية دون تقديم أي دليل على أنشطة عسكرية تبرر ما يقوم به، في استهداف متعمد لأنظمة الرعاية الصحية، وعقاب جماعي ضد الفلسطينيين.
وبسبب نفاذ الوقود اللازم لتشغيل الكهرباء من جهة، ونقص المياه من جهة ثانية، يتم إغلاق مختلف الأقسام في مستشفيات القطاع كمرحلة أولى، لتخرج عن الخدمة في مرحلة ثانية. سبب آخر على معاناة مستشفيات القطاع يتمثل بالعجز الكبير في الكادر البشري بعد أن استهدفت غارات العدو جزءاً كبيراً منه، وشردت جزءاً كبيراً آخر، مما حال دون قدرة الكادر البشري على الوصول إلى المرافق الصحية.
ولعل أفظع توصيف مؤلم لما يجري في القطاع الصحي في غزة هو أن «من يُجرح يستشهد، ومن يمرض يموت» كما قال مدير المستشفيات الميدانية بوزارة الصحة الدكتور مروان الهمص، إثر انهيار المنظومة الصحية وخروجها عن الخدمة.
أخيراً تجدر الإشارة إلى أنه ومنذ اللحظات الأولى للحرب ظهرت لدى الاحتلال «الإسرائيلي» مخططات عدائية ضد المنظومة الصحية، وتوالى استهدافه للمستشفيات باستهداف ممنهج طال غالبية المستشفيات والمراكز الصحية، كان من أبرزها مجمع الشفاء الطبي ومجمع ناصر الطبي ومستشفى العودة ومستشفى كمال عدوان والإندونيسي والمستشفى الميداني الإماراتي الأكبر من بين المستشفيات الميدانية في القطاع.