التطبيع، هو الوجه الآخر للاستسلام، والامتثال لإملاءات العدو، والانصياع لإرادته. وفي مفرداته، فإنه ينهل من ثقافة الهزيمة وتعبيراتها، ومنها، «الواقعية» و«عدمية الصراع» مع عدو متفوق عسكريًّا وتكنولوجيًّا، ومدعوم أميركيًّا وغربيًّا.
يعرف الكيان جيدًا أن الوعي الجمعي العربي، على الرُّغم من محاولات اختراقه وحقنه بأفيونات الزيف والتضليل، ما يزال يرى فيه عدوًّا، وكيانًا مصطنعًا دخيلًا على المنطقة. ويدرك العدو أن مصيره الزوال، ولن يحظى بالأمان والاستقرار ما لم تتغير نظرة العرب إليه، لجهة تحوله إلى دولة طبيعية في أعين شعوبنا. ويعي أيضًا أن منسوب كراهيته في النفوس ورفض وجوده تضاعف ارتفاعه، بعد عدوانه الهمجي المتواصل على غزة ولبنان وفظائع الإبادة والإجرام التي يرتكبها. لذا، يستغل بنفاد صبرٍ تهافت بعض النظام الرسمي العربي على التطبيع معه ووجود دعاة تطبيع في مجتمعاتنا، لاختراق الوعي الجمعي العربي قدر ما يستطيع. ويتصدر أهداف التطبيع بالنسبة للكيان اللقيط، إعادة تشكيل الوعي العربي، وبشكل خاص لجهة كتابة تاريخ فلسطين والمنطقة بما يتوافق مع الرواية الصهيونية، والتنكر للحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني الشقيق، وانتزاع فلسطين من عمقها العربي.
ولا يمكن إعادة تشكيل الوعي في أي اتجاه كان، إلا باختراق العقل من خلال التفاعل الأدبي والفكري. من هنا، ندرك الأهمية القصوى التي يوليها الكيان اللقيط للإعلام الرقمي والشبكة العنكبوتية. إنه الإعلام الجديد، الذي أحدث تحولات تاريخية أهَّلت حاضرنا لوصفه عن جدارة واستحقاق بعصر تكنولوجيا الاتصال والمعلومات.
ولعل في مقدمة ميزات الإعلام الإلكتروني الحديث، أنه الأسرع في نقل المعلومات، والأسهل في الاستخدام، والأقل كلفة مالية وأمنية.
لقد أنشأ الكيان الكثير من الصفحات الناطقة بالعربية على وسائل التواصل الاجتماعي، تحظى بملايين المتابعات والإعجابات للأسف.
معظم هذه الصفحات تتبع الاستخبارات الصهيونية بأسماء عربية، تدعي أنها من دول «شقيقة» مختلفة. ويديرها، ويكتب محتوياتها ضباط ذوو خبرات أمنية وتقنية عالية، وطواقم متخصصة في الأديان والعادات والتقاليد وفي علم النفس. أما المحتوى، فمدروس بعناية ليناسب الإنسان العربي. والهدف كما قلنا، تطويع العقل العربي بعد تخديره بالأكاذيب والزيف ليتقبل وجود إسرائيل، بالإضافة إلى الحصول على معلومات شخصية وعامة قدر المستطاع.
من هذه الصفحات، «اسرائيل تتكلم بالعربية» في فيسبوك، و«اسرائيل في مصر»، و«اسرائيل باللهجة العراقية»، وصفحة ضابط استخبارات العدو «أفيخاي أدرعي». ويتابع هذه الصفحات مئات الآلاف من العرب، الشباب خاصة.
كما أنشأت استخبارات الكيان ما يُعرف بوحدة «مجندات التيك توك»، وهي وحدة عسكرية من عشرات المجندات الجميلات. هدفهن الرئيس، تبييض صورة جيش الفاشية الصهيونية، بإظهاره جيشًا إنسانيًّا مرحًا يضم فتيات يمارسن الرقص ويرددن الأغاني داخل الثكنات، وفي الميدان، وعلى الحدود. خطورة حسابات المجندات على التيك توك والانستغرام أكثر من غيرها، لاحتوائها فيديوهات قصيرة تظهر محتوياتها كما لو أنها عفوية، ولا تخلو من إيحاءات جنسية، وتستهدف الشباب والمراهقين بشكل خاص.
وقد لحظنا كما لاحظ كثيرون، بعد العدوان الصهيوني المتواصل منذ 14 شهرًا، زيادة حضور العدو وتأثيره في منصات التواصل الاجتماعي. تجلى ذلك في التعاون مع دول مختلفة واستغلال انحياز منصات التواصل الاجتماعي إلى جانب الكيان، لصنع خوارزميات تحارب المحتوى الداعم للحق الفلسطيني، بالإضافة إلى ملاحقة حسابات وصفحات، وأسماء بعينها، وتقييد، وصولها.
على صعيد سبل المواجهة، نقدم لها بالتذكير بأن أخطر أشكال التطبيع ذاك القائم على اختراق العقل والقابلية لإعادة تشكيل الوعي. ومن المعيب والمخجل أن نرى بعض عيناته، وبينهم رجال دين، في تسجيلات بالصوت والصورة يتحدثون بلغة العدو ويرددون كالببغاوات ما يخدم دعايته المسمومة. وعليه، فإننا ندعو إلى مأسسة مقاومة التطبيع مع العدو التاريخي لأمتنا بجملة إجراءات يتصدرها
وضع إستراتيجية عربية خاصة بذلك، في مقدمة أولوياتها التأكيد على عدالة القضية الفلسطينية وإبراز عمقها العربي.
ونرى من الضرورة بمكان تشكيل شبكة عربية لمقاومة التطبيع، وذلك بالاستغلال الأمثل للإمكانات التي يوفرها الإعلام الرقمي وميزاته التي ذكرنا. ولا يقل أهمية في السياق ذاته، تنظيم حراك إعلامي عربي دائم، من شأنه الحفاظ على حضور قوي للقضية الفسطينية وتأصيلها في النفوس، وحماية وعي الأجيال من مخاطر التطبيع مع العدو. وليس يفوتنا التأكيد على أهمية تنظيم حملات مقاطعة لصفحات العدو في وسائل التواصل الاجتماعي، تُعريها بالأدلة والبراهين، وتُظهر زيف ما تنشر وتبث من أكاذيب، وتفضح أهدافها. أما المطبعون، وأحقر منهم وأوقح دعاة التطبيع في هذه الظروف بالذات، فمن موجبات مواجهة الخطر الصهيوني التعامل معهم كطابور خامس. هؤلاء عار المجتمعات، لا يعرف الوعي الجمعي في التعامل معهم غير النَّبذ وعزلهم اجتماعيًّا والازدراء بهم، جزاءً وِفَاقًا، وبِئسَ ما يفعلون.