الحلقة الأولى
الكيان الصهيوني السرطاني المزروع في جنوب بلادنا يشنُّ حربا همجية على شعبنا في غزة والضفة وفي لبنان والشام والعراق معتمدًا استراتيجية دائمة تقوم على القمع والإرهاب والعدوان والحصار والتجويع والاغتيالات والدمار الشامل والتوسع والاستيطان وتهدف إلى تثبيت دولته اليهودية العنصرية التوسعية وتصفية المسألة الفلسطينية وتفكيك المقاومة وإزالة أي قوة يمكن أن تشكل خطراً على هذه الدولة. وتهدف الإستراتيجية الصهيونية ايضًا إلى تغيير “الشرق الأوسط” الكيان الصهيوني السرطاني المزروع في جنوب بلادنا يشنُّ حربا همجية على شعبنا في غزة والضفة وفي لبنان والشام والعراق معتمدًا استراتيجية دائمة تقوم على القمع والإرهاب والعدوان والحصار والتجويع والاغتيالات والدمار الشامل والتوسع والاستيطان وتهدف إلى تثبيت دولته اليهودية العنصرية التوسعية وتصفية المسألة الفلسطينية وتفكيكها من خلال إضعاف الدول المحيطة بالكيان الصهيوني بزعزعة استقرارها وبنياها الاجتماعي والسياسي لتصبح دولاً أكثر ضعفًا وتفككًا وعجزًا عن معالجة أوضاعها المتردّية، ولتتحوّل إلى دول طائفية وأثنية وقبائلية هزيلة وخاضعة لمشيئة الدولة اليهودية “العظمى” ومن يساندها من قوى الغرب الاستعماري الأطلسي. وقد عبّرَ نتنياهو عن هذا الهدف بإعلانه الصريح عن سعيه بشكل منهجي لتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط كله وخلق “شرق أوسط جديد” يكون الكيان الصهيوني مسيطراً عليه.
هذا الشرق الأوسط الجديد، حسب رؤية نتنياهو، لا يحتوي على أية دولة فلسطينية ويتشكل من الدول المنخرطة في عملية التطبيع مع الاحتلال.
في خضم هذه الحرب المصيرية وما تُرتكب فيها من مجازر وحشية متنقلة دون أي اكتراث للقوانين والمواثيق الدولية والإنسانية، رُبَّ سائل كيف يمكن لبلادنا المجزأة والمستباحة والمغلوبة على أمرها نتيجة تخلّفها وانقساماتها وتخبطها في مشاكل مُزمنة وأوضاع فاسدة ومذلّة، ونتيجة انحطاط معنوياتها وخضوعها لنفوذ الإرادات الأجنبية ولاحتلالات متعددة أهمها الاحتلال الصهيوني في فلسطين والاحتلال التركي في الشمال. ـ كيف يمكن لهذه البلاد، التي تعيش الدمار والدم والمآسي والآلام يوما بيوم، أن تواجه العدو الهمجي المتغطرس وأن تنهض من واقعها الانحطاطي المأساوي وتتقدم إلى الأمام ليكون لها المكانة اللائقة بين الأمم؟
برأينا، لا قيامة لبلادنا ولا أمل لها في معترك تنازع البقاء إلا في مشروع نهضوي متكامل يقاوم الاحتلال والسيطرة الأجنبية على مقدرات الأمة وقرارتها ويعمل على تجديد حياة الأمة بإيقاظ وجدانها القومي وتعزيز سيادتها على نفسها واستقلالها السياسي والاقتصادي والروحي وعلى إعادة بناء المجتمع على أسس صحيحة من خلال القيام بإصلاحات جذرية تقضي على عوامل التفرقة والتخلف والفوضى والفساد والتعصب الطائفي والانتماءات الضيقة وتساهم بترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والانتماء القومي ـ
أنطون سعاده كمفكر استراتيجي ـ رؤيوي قدَّمَ مشروعًا نهضويًّا شاملاً للنهوض بالأمة الراقدة في قبر التاريخ ولتدعيمها بعناصر القوة لمواجهة مشاريع الإرادات الاستعمارية وفي مقدمتها المشروع الصهيوني الاستيطاني الطامع بالهيمنة على كامل وطننا وثرواته تحقيقًا لحلمه التوراتي ـ الخُرافي ـ هذا المشروع النهضوي الذي أطلقه سعاده وأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي لتحقيقه، لخّصه في النص التالي: «غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى الأمة السورية حيويتها وقوتها، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة السورية استقلالاً تاماً وتثبيت سيادتها وتأمين مصالحها ورفع مستوى حياتها والسعي لإنشاء جبهة عربية.»(1) [1]
انطلق سعاده من رؤية مستقبلية واضحة، بعيدة المدى، ترمي إلى تحقيق حياة أجود لأمته في عالم أجمل وقيم أعلى.«(2)[2] هذه الرؤية الإنسانية ـ الحضارية التي عكست طموحه الكبير وآمال شعبه السامية، لم ترمِ إلى نهوض أمته فقط، بل تطلعت إلى إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته ـ فغايته لا تقتصر على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية للأمة ورفع مستوى حياتها لتمتع بحياة أجود وأفضل، بل هي تشمل الإنسانية جمعاء وسعادتها، حيث يرى أن المشاكل العالمية مثل الحروب المدمِّرة والصراعات المُهلكة والأزمات الاقتصادية والسياسية والفقر والبطالة والتلوث والظلم وانتشار الإرهاب المنظّم يجب معالجتها من خلال تبني «نظرات جديدة في الاجتماع» وقيم أخلاقية عليا وإنشاء نظم جديدة تسهم في تقدم البشرية وبناء حياة «أسعد حالاً وأبقى مآلاً.»(3)[3] ـ من هنا قوله: «إنّ الحركة السورية القومية لم تأتِ سورية فقط بالمبادئ المحيّية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وارتقاء الثقافة.»(4)[4]
وهنا تجدر الإشارة إلى النقاط التالية:
أولاً، سعاده استمد رؤيته من فهم عميق لتاريخ الأمة السورية وتراثها الغني بالإنجازات والمآثر الإبداعية، مما مكّنه من بلورة مشروعه القومي ـ هذا يعني أن النهضة التي تحدث عنها كانت مستندة إلى ماضي الأمة العريق وإرثها الصراعي ـ لذلك، فإن تطبيق هذه الرؤية يتطلب العودة إلى التاريخ المضيء والتراث الروحي ـ الثقافي للأمة واستكشاف الاتجاه العملي ـ الصراعي الذي امتازت به بلادنا على مر العصور، مع دمجه في مشروع مستقبلي للنهوض ـ
ثانياً، سعاده كان واعيًا لواقع الأمة الاجتماعي والسياسي والنفسي، ومتفهماً لمشكلاتها بعمق ـ إنَّ معرفته بالواقع وتعقيداته ليس أمراً مستغربًا وهو العالم والباحث الاجتماعي الذي استَّهلَ أبحاثه في دراسة المسألة القومية ومعنى الأمة ومسألة الجماعات عمومًا والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها، وهو الذي حضَّ في كتابه السوسيولوجي «نشوء الأمم» على دراسة «الواقع الاجتماعي الإنساني في اطواره وظروفه وطبيعته»، معتبرًا إن درسًا من هذا النوع أمر ضروري لكل مجتمع يريد أن يحيا، ومؤكِّدًا أن كل جماعة تريد الارتقاء «لا بد لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه.»(5)[5] ـ لذلك، أحد مفاتيح تطبيق رؤيته اليوم هو فهم الواقع المعاصر بكل تعقيداته ـ وهذا يستوجب تحليل الظروف الاجتماعية والسياسية الراهنة بمنهج علمي وموضوعي، واستنباط الحلول التي تساعد في معالجة القضايا الأساسية التي تواجه الأمة اليوم مثل الطائفية والتمزق الاجتماعي والانحطاط المناقبي، التخلف الاقتصادي، الغزو الثقافي والأطماع الخارجية.
ثالثاً، سعاده لم يكن منفصلًا عن العالم، بل كان مطلعًا على إبداعاته وثقافاته وعلى دراية بالتطورات الدولية والأفكار الجديدة ـ فهو كان يتابع الأحداث والتطورات العالمية ويحللها بمنهجية علمية ومنطقية ـ لذا، فإن تطبيق رؤيته اليوم يتطلب انفتاحًا على العالم وفهمًا للتغيّرات الدولية الجديدة وتأثيرها على الأمة، مثل التغيرات الدولية السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية، النزاعات والحروب الإلكترونية، العولمة والاقتصاد الرقمي، مع التركيز على كيفية الاستفادة منها لصالح الأمة.
رابعاً، أنطون سعاده أكَّد على الأهداف الأخلاقية والمثالية في مشروعه النهضوي، مشيرًا إلى أن النهضة ليست مجرد تغيير مادي، بل تشمل القيم النفسية، الأخلاقية والمناقبية، التي تُعدّ أساسية في بناء مجتمع قومي سليم ـ ففي رؤيته، لا قيمة للحياة بدون مبدأ ومثل منشود، «لأن الحياة الإنسانية بلا مبادئ إنسانية يتمسك بها الإنسان ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة.»(6)[6] ويؤكد سعاده أنه «متى بطل أن يكون لأمة ما مثلٌ أعلى تريد تـحقيقه، لم تبقَ لها حاجة إلى الـحرية والاستقلال.»(7)[7] هذا الكلام يعكس التزام سعاده بالمبادئ الجديدة التي جاء بها والتي شكَّلت فلسفة حياة متكاملة، حيث تعتبر الأخلاق شرط ضروري لبقاء المجتمع وارتقائه وبدونها لا يمكن للأمة أن تبني عظمتها، وهي السبيل لضمان تحقيق الخير العام في ظل الحرية والسلام.
سعاده يرى أن النهضة هي عملية خروج من حالة التفسخ الروحي والتضارب إلى حالة من الوضوح واليقين(8)[8]، وهي تقوم على بناء عقلية أخلاقية جديدة تجعل المبادئ أهم من الحياة نفسها ـ لذلك، أي مشروع مستلهم من رؤيته يجب أن يضع الأخلاق في صميم أهدافه، سواء في محاربة الفساد والمآرب الخصوصية أو في تحقيق العدالة الاجتماعية، فمسألة الأخلاق، برأيه، هي «من أهم مسائل النهوض القومي.»(9)[9] ويوضح سعاده أن كل خطة سياسية أو حربية أو اقتصادية مهما كانت بديعة لا يمكن تحقيقها إلا بأخلاق متينة.(10)[10] كما يؤكد أن «كل نظام يحتاج إلى الأخلاق، بل إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكنُ ان يكتبَ له ان يبقى.»(11)[11]
إن رؤية سعاده تُظهر أن النهضة لا تقتصر فقط على الإصلاحات الاقتصادية أو السياسية، بل تشمل جميع قضايا المجتمع القومي وأغراضه وتأسيس نظام مناقبي عميق، قادر على مواجهة تحديات المجتمع، وضمان كرامة الإنسان وتحقيق المقاصد الكبرى للأمة ـ بهذا المعنى، الالتزام بالقيم الأخلاقية والمثالية ليس خيارًا ثانويًا، بل هو جوهر النهضة ومحورها.
1 ـ أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 171.
2 ـ سعاده، الصراع الفكري في الأدب السوري، ص 69.
3 ـ سعاده، الآثار الكاملة 1 أدب، الصراع الفكري في الأدب السوري، من الظلمة إلى النور، ص 53.
4 ـ المرجع ذاته.
5 ـ أنطون سعاده، نشوء الأمم، طبعة 1976، ص 14
6 ـ أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، طبعة 1976، ص 177.
7 ـ أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، المجلد الأول 1921 – 1934، «عصران يتصارعان – مبادئ أساسية في التربية القومية»، المجلة، بيروت، المجلد8، العدد 1، 1/3/ 1933.
8 ـ أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، ص 15-16.
9 ـ المرجع ذاته، ص 177.
10 ـ المرجع ذاته.
11 ـ المرجع ذاته.