سيادة الدولة القومية وتداعياتها – الحلقة الثالثة

 إن أهمية الدولة المدينية (راجع الحلقة الثانية) التي نشأت في سورية، ومنها شعّت على العالم كلّه ، تبدو واضحة جليّة في الخطوط العامة الآتية، والتي يحتاج كلّ منها إلى دراسة خاصة:

  • في المدينة – الدولة السورية وضع أساس الحقوق المدنيّة التي ارتقت في قرطاجة وبلغت أوجها في روما.
  • في المدينة – الدولة السورية تحوّلت الرابطة القبلية القديمة إلى الرابطة الاجتماعية الواسعة، فزال ذلك الخضوع الأعمى للملك وصبغته الإلهية، وأصبح الملك ينتخب انتخابا لمدّى الحياة. فكان أصل الديمقراطية والجمهورية.
  • في المدينة- الدولة السورية ازدادت الحركة الاجتماعية والاختلاط الاجتماعي وأخذت المصالح الخاصة تحلّ محل مصلحة العشيرة، وابتدأ الناس يشعرون باشتراكهم في حياة واحدة، هي حياة المدينة، وفي هذا الشعور نجد أصول مؤسسة الاشتراك في دولة المدينة والاتجاه نحو الديمقراطية.

– ويعود الفضل إلى إصلاحات هاني بعل في إعطاء قرطاجة والعالم الديمقراطية الصحيحة والاتجاه       الديمقراطي الفعلي، ولعل من أبرز أعمال هاني بعل في هذا المجال إلغاء إعادة انتخاب أعضاء مجلس الـ 104 أكثر من مرة واحدة، وإصلاح بعض القوانين الإدارية والمالية.

  • في المدينة – الدولة السورية ارتقى الشرع مع ارتقاء أحوال الدولة، فظهرت شريعة حمورابي التي تعتبر أقدم شرائع العالم، وبرز الشرع الكنعاني الذي اقتبس منه ومن الشرع البابلي العبرانيون شريعتهم الموسوية. ومن مراجعة الشرع السوري نرى القانون قد أصبح شيئا متميّزا عن العادة، والعرف، والانتقام الشخصي، والثأر. وفيه نجد تنظيما للأحوال الحقوقية والجزائية، التي تطورت في مدرسة بيروت الحقوقية واليها يعود الفضل في حل قضية « الحقوق الإمبراطورية والحقوق الشعبية». وعن المدرسة السورية للحقوق اقتبس الرومان شرائعهم التي هي أثمن ما تركته روما للبشرية، خصوصا في مجموعة يوستنيان التي تعتبر أعلى ما بلغه الشرع وأساس الحقوق الشرعية في القرون الوسطى والحديثة.

الدولة الاقطاعية:

إلا أن النظام السياسي الإمبراطوري الذي أرسته روما سقط تحت ضغط البرابرة وتفكك وانحط إلى اقطاعيات على رأس كلّ منها امير نبيل أو بطل محارب، فظهرت نتيجة ذلك الدولة الإقطاعية التي حلّت فيها مصلحة الأمير محل مصلحة الدولة أو مصلحة الجماعة.

وكان من نتائج انهيار الدولة، إلى جانب ظهور الإقطاع، بروز نظام آخر يدعي السيادة العامة هو نظام الكنيسة المستمدة من الدّين. ممّا أدى إلى سيطرة الدّين على عقول القرون الوسطى، وتعاظم سلطات البابوات حتى زعم بعضهم انه السيد المطلق الذي يخضع له كلّ الأمراء، كما أصاب البعض الآخر منهم نجاحا في النزاع بين السلطة البابوية وسلطة الأباطرة والملوك، كانت نتيجته نشوب الحركات الإصلاحية التي قضت على الجامعة الدينية الزمنية والروحية معا، فانقسمت الكنيسة على ذاتها وفقدت السلطة الزمنية التي حاولت سابقا احتواءها. هذا في أوروبا، أما في بلاد العرب، فقد تمكنت الدولة الدينية الإسلامية المحمدية ان تسيطر على الشرق بلا منازع، وتتحول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف مركزها مكة. أما في تنظيم الدولة، ففي التنازع على خلافة النبي(ص) فظهر مبدئين اساسيين: مبدأ الانتخاب ومبدأ النسب النبوي، فخلافة ابو بكر وعمر وعثمان كانت انتخابية، في حين اشتد النزاع بين معاوية الأموي والإمام علي الهاشمي الأقرب إلى النبي، والأعظم شأنا من الوجهة الدينية.

أما الدولة الأموية، في دمشق، فقد جعلت الخلافة في حال وسط بين الانتخاب وشرعية الخلافة، أي انها حصرت الانتخاب لمرشحي العائلة، ومرد ذلك إلى البيئة الجديدة التي انتقلت إليها الخلافة الإسلامية، اي البيئة السورية التي كان فيها علم الدولة، وعلم الحقوق الدستورية والمدنية والشخصية قد بلغ أرقى مرتبة عرفها العالم.

ويقول هرتمن (Hartmann): « ان تحويل الأمويين الخلافة إلى ملكية وراثية كان حادثا خطيرا لا يحسب شيئا في جانبه أي حادث آخر في حياة الشعوب الإسلامية الدولية». أما الأسس الحقوقية في الدولة الإسلامية، فقد قامت على الركائز الآتية:

  • المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والشخصية بين المسلمين، إلا في الخلافة فهي في أهل قريش.
  • شرع الدولة هو شرع الله المنزل على رسوله.
  • الحقوق هي حقوق المسلمين فقط في الدول التي وصلها الفتح، وعلى غير المسلمين أن يؤدوا الجزية ويكونوا في حماية الدولة، ويتمتعون، فقط، بحقوقهم الخاصة في الأحوال الاجتماعية والدينية.
  • مصادر سنّ القوانين في الدولة الإسلامية: علم العلماء، إجماع المسلمين وسلطة الخليفة