رحيل البابا فرنسيس: أفول حقبة مميزة من تاريخ الفاتيكان

لا يمكن أن تمر وفاة البابا فرنسيس مرور الكرام دون التطرق الى مسيرته وإلى مواقفه التي ميزته على مدى 12سنة في الفاتيكان على رأس الكنيسة الكاثوليكية.

 ترك رحيله حزناً عميقاً في قلوب المؤمنين حول العالم، هو الذي استطاع أن يحدث تغييراً جذرياً في نهج الفاتيكان من خلال أفكاره المنفتحة ونهجه الإصلاحي الذي سعى من خلاله إلى تجديد الكنيسة وتقريبها من الناس من جهة، والتزامه بالقيم الإنسانية الرافضة للظلم في أي مكان والوقوف إلى جانب القضايا المحقة والشعوب المقهورة من جهة أخرى.

هو المختلف في جرأة مواقفه، توفي عن 88 عاماً إثر إصابته بجلطة دماغية تسببت في دخوله في غيبوبة وفشل في الدورة الدموية للقلب، حسب شهادة الوفاة التي أصدرها الفاتيكان.

كانت غزة آخر وصاياه حتى اليوم الأخير من حياته. حين أطل في آخر ظهور له الأحد الماضي في الفاتيكان خلال احتفالات عيد الفصح، ندد بـ”وضع مأساوي مخجل” في غزة، ودعا إلى وقف الحرب ومساعدة الشعب المتضور جوعاً. فقد كان يتابع بشكل دائم الأوضاع فيها وكانت مواقفه تثير حفيظة العدو الصهيوني التي كان آخرها معبّراً عن سخطها بشكل واضح. ففي حين نعى العديد من القادة السياسيين والروحيين من مختلف أنحاء العالم البابا فرنسيس وأعربوا عن حزنهم على فقد هذه الشخصية المميزة، غاب نعي المسؤولين “الإسرائيليين”، ما يعكس حالة من التوتر سادت العلاقة بين البابا وحكومة العدو الصهيوني بسبب مواقفه المناصرة للسلام والعدالة في فلسطين.

إثر الوفاة جاء في منشور على حساب “إسرائيل” الرسمي على منصة أكس “ارقد في سلام أيها البابا فرنسيس، لتكن ذكراه مباركة”، بالإضافة إلى صورة له وهو يزور الحائط الغربي في القدس. إلا أن حكومة العدو حذفت هذا المنشور، دون أن توضح سبب الحذف، لكن صحيفة جيروزاليم بوست ربطت ذلك بانتقاد بابا الفاتيكان الراحل للحرب في غزة، وأنه أدلى “بتصريحات ضد إسرائيل” وإن المنشور وُضع على منصة التواصل الاجتماعي “بالخطأ”.

كان البابا فرنسيس اقترح في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن يدرس المجتمع الدولي ما إذا كانت حملة العدو الصهيوني العسكرية في غزة تشكل إبادة جماعية للشعب الفلسطيني، في أحد أكثر انتقاداته صراحة لتصرفات الكيان الصهيوني في حرب غزة، كما وصف الوضع الانساني في غزة “بالمخزي” ما أثار انتقادات من كبير الحاخامات اليهود في روما الذي اتهم البابا فرنسيس “بالسخط الانتقائي”.

في كتاب نشر العام الماضي دعا البابا إلى اجراء دراسة متأنية بشأن ما إذا كان الوضع في غزة يتوافق مع التعريف التقني للإبادة الجماعية. وهذا اتهام ترفضه “اسرائيل” تماماً كما ترفض انتقاداته في حربها على غزة. فقد تابع آلة القتل “الاسرائيلية” التي لم تفرق بين سكان غزة المسيحيين والمسلمين وأعلن معارضته الشديدة لمسلسل الإبادة التي تمارسها “اسرائيل”، ولم تمنعه الضغوط الدولية من التعبير بصراحة عن تنديده بالغارات “الاسرائيلية” التي مسحت غزة وقتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

وما أثار “الاسرائيليين” خصوصاً اعتراف البابا فرنسيس بدولة فلسطين ورفع العلم الفلسطيني في حاضرة الفاتيكان. فقد كان مدافعاً ثابتاً عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، لا سيما في موقفه الثابت ضد الحرب والعدوان وأعمال الإبادة الجماعية التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين في قطاع غزة خلال الأشهر الأخيرة. وتميز البابا بمطالبته بوقف هذه الحرب، ونصرته للقضية الفلسطينية، إضافة إلى وقوفه الدائم إلى جانب لبنان في كل المراحل وإدانته للعدوان “الإسرائيلي” عليه.

وعلى خط آخر قال البابا فرنسيس خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، بخصوص ترامب “الشخص الذي لا يفكر إلا في بناء الجدران، أينما كان، وليس بناء الجسور، ليس مسيحياً. ليس هذا هو الإنجيل”. وهذا دليل على رفضه للظلم اللاحق بالدول والشعوب على يد الحكام المتهورين.

عرف عن فرنسيس التواضع ودعم الحركات الإنسانية والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وتشجيع الحوار والتواصل بين مختلف الخلفيات والثقافات. بعد انتخابه حبراً أعظم، أجرى تعديلات عديدة على التقاليد البابوية وطبقها خلال مسيرته في الفاتيكان. احتفظ بالصليب الحديدي الذي كان يرتديه كرئيس أساقفة ولم يرتد الصليب الذهبي الذي ارتداه سابقيه. كما أطلّ بثوب عادي أبيض اللون، بدلاً من الأحمر الذي يفرضه التقليد. ورفض الإقامة في القصر الرسولي المقابل لساحة القديس بطرس، وفضل الإقامة في بيت القديسة مرثا، وهو نزل صغير لاستقبال ضيوف الفاتيكان. وألغى المكافآت التقليدية التي تدفع للموظفين في الفاتيكان بعد انتخاب البابا الجديد والتي يقدر مجموعها بعدة ملايين من اليورو، واستعاض عنها بالتبرع للجمعيات الخيرية.

وتظهر الوصية التي كتبها قبل 3 سنوات والتي نشرها موقع الفاتيكان الرسمي مدى صدقه في التعامل مع كافة الأمور في حياته وبعد مماته. فقد طالب فيها بدفنه في قبر بسيط تحت الأرض من دون زخرفة خاصة، وعليه نقش وحيد: فرنسيسكوس، في كاتدرائية سانتا ماريا ماجوري في وسط روما، وليس في سرداب كنيسة القديس بطرس، وهو ما سيكون سابقة منذ أكثر من ثلاثة قرون.

تولى البابا فرنسيس قيادة الكنيسة في ظروف استثنائية، إذ جاء خلفاً للبابا بنديكتوس السادس عشر الذي استقال من منصبه في خطوة غير مسبوقة منذ قرون، وواجه تحدياً كبيراً تمثل في إعادة الثقة بالكنيسة وإصلاح مؤسساتها، في وقت كانت تعاني فيه من أزمات متعددة. ومع ذلك، استطاع أن يثبت جدارته وأن يكسب محبة الملايين حول العالم. وقد استطاع الوصول إلى قلوب الناس من خلال بساطته وتواضعه واهتمامه بالفقراء والمهمشين.

نجح البابا فرنسيس في نهجه وحماسته للتغيير، في التواصل مع الجماهير وخصوصاً الشباب، وفي خلق حيثية روحية وشعبية كبيرة، متجاوزاً حدود المؤسسة الدينية التقليدية. ومن أبرز ما تميز به البابا فرنسيس، قدرته الاستثنائية على مد جسور التواصل مع مختلف الديانات والثقافات، ودعوته الدائمة للحوار من أجل السلام في فلسطين ولبنان وسوريا وفي كل بقعة تسودها الحروب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *