اننا لا نعتقد ان الصدفة لها عظيم الاثر فيه بالقدر الذي للمخططات الموضوعة بعد ان اصبح التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى سلاح الغرب، الذي ألِفوه وتعلموه من الشيوعية وخططها الخمسية والعشرية التي نقلت روسيا العظمى او الاتحاد السوفياتي من دولة زراعية بدائية نسبة للثورة الصناعية التي كانت تعصف بالغرب الاوروبي الى دولة صناعية نووية لا تقل شأنا” رغم عظيم التحفظات و الملاحظات و العراقيل… التي رافقت تلك النهضة ، فنقل هذا التخطيط الامبراطورية الزراعية الى امبراطورية تكنولوجية نووية تنافس الغرب في غضون اقل من بضعة عقود.
المخطط الذي يدور حوله مشروعنا هو الذي تبنته الولايات المتحدة الاميركية العدو اللدود آنذاك للشيوعية والنازية كما يذاع وهو موضع شك وخاصة حين يترافق مع شعار مناصرة الحريات ونشر الديمقراطية حول العالم، هذا الشعار الذي حملته دول الاستعمار وبالأصح الاستعباد والاحتلال تحت مسمى الحلفاء في وجه النازيين والفاشيين وحلفاؤهم في دول المحور.
قد يكون هذا الموقف مجرد وجهة نظر إذا ما اعتمد كرأي بعيداً عن الادلة الحسية والتاريخية، وان لم يكن الاستعمار او الاستعباد ليمسح عن ابطال الحرب العالمية الاولى بريطانيا وفرنسا (خصوصًا لما جسدته. هاتين لقوتين في تلك المرحلة كنموذج يحتذى على اراضيهما)، رغم الاهوال التي عانتها الشعوب الواقعة تحت وطأة احتلالهما والاستغلال الممنهج والعلمي والوحشي لخيراتهم التي حرموا منها بالكامل. لكن مع دخول الولايات المتحدة كقطب اساسي بعد تخليها عن سياستها الحيادية وعدم التدخل والاكتفاء بوجودها خلف المحيطات بدأ ت المخططات – المكائد تأخذ بعدا” آخر تطاول ويلاته الحلفاء قبل الخصوم (وهذا ما أصبح يعرف في السياسة الاميركية بأن لا حليف دائم ولا عدو دائم)، فكانت اول ضحاياه القوتين المذكورتين سابقا” المنتصرتين في الحرب الاولى حيث لم تنهزم المانيا. ولم تستسلم الا بعد ان سوت اقتصادهما وبناهما التحتية والفوقية بالأرض وخاصة خلال الحرب العالمية الثانية.
اخرجت اميركا خطتها الشيطانية الاولى التي كشف خيوطها الرئيس الفرنسي آنذاك قبل اعلانها بفضحه نوايا الاميركي المبيتة والتي اظهرها حين سأله الرئيس الاميركي روزفلت عن سبب جفائه تجاهه فرد كليمنصوه:” لإنكم تركتمونا حتى خارت قوانا ودمرت بلادنا ولم تدخلوا الحرب الا في نهايتها ، رغم ان الهجوم الياباني على مرفأ بيرل هاربر حصل بداية الحرب…”. وكأنه تبين نواياهم المبيتة التي ظهرت في خطة مارشال Marshal (الخطة التي اعتمدت في العلن لإعادة اعمار اوروبا بمساعدة اميركا) التي ما بنت اوروبا الجديدة إلا والقيد في عنقها ويداها مكبلة كما يقول العلامة نعوم تشومسكي اذ كانت الشروط الاميركية تقضي بتقييد حرية اوروبا وتقسيم قوتها العظمى (المانيا) الى دولتين وحرمان الاحزاب الاشتراكية التي كانت مسيطرة في اهم دول اوروبا (المانيا فرنسا بريطانيا وبلجيكا….) من المشاركة في الانتخابات والا حرموا من القروض المجحفة (لا المساعدات) التي احتاجتها دولها لإعادة بناء اقتصاداتها ، وجعلتها تحت الوصاية الاميركية ضمن حلف الناتو ونصبت اميركا قواعدها العسكرية فوق اراضي اوروبا الغربية بمجملها…
ما كنا بحاجة الى كل هذه السردية التاريخية لولا تجدد المشروع بحلة جديدة على الضفة الاخرى المتوسط وبنفس الادوات والخبث والاجرام الاميركي ذاته ، حيث ظهرت خرائط جديدة للمنطقة تنطلق من فلسطين وغزة تحديدا “بعد ان ظنت ان قوى الممانعة في المنطقة باتت عاجزة بعد ما عرف بالربيع العربي الذي تزعمته قوى الظلام الداعشية ورديفاتها المدعومة من دول الجهل والظلام المسيرة اميركيا”، فعبثت بأمن العراق والشام ومصر ولبنان ودمرت اقتصاداتها ظنا” انها باتت جاهزة لتحقيق خطة Marshall 2 وفي فلسطين وفي غزة تحديدا” حيث تفصح الخرائط والصور والمجسمات عن مشروع ضخم سيغير وجه المنطقة ويحول غزة الى محمية عبرية مليئة بالأبراج والمشاريع السياحية والفنادق والحانات شبيهة بدبي (على حد وصف احدهم) وتعوم على لوايتان Lewa than من الغاز والنفط الذي يملأ خزانات امريكا وخزائن الكيان العبري، فنكون بين مارشال اخضاع الغرب 1 Marshall ورديفه marshal 2 اركاع الشرق او المشرق وتغيير هويته وتجويعه ، لكن الحسابات المخابراتية المؤامراتية لم تواتي حسابات بيدر المقاومة الذاخر بالغلال والصمود والمجد ، فالحروب التخريبية وضرب الاقتصاد وتجويع وتهديد الحكام والشعوب الذي اتى اكله في الغرب لم يظفر بذات الحفاوة والنتائج في مشرقنا وما سجله من نجاح وعلامات عالية ل Marshall 1 في الغرب سجله خيبة وسوء نتائج في شرق الارادة والعزيمة والحق المنتصر ومشروعهم Marshall 2 هذا الذي لم تظهر خيوطه الاولى لأنه مر بمراحل عدة قبل بلورته بصورته النهائية الخائبة ايما خيبة فلم يبصر النور ويظهر الى العلن.
اذا ما حاولنا الوقوف على اسباب نجاح منقطع النظير في بؤرة كانت في عز حيويتها ونهضتها العلمية والفكرية والاقتصادية وحتى العسكرية التي كانت تحكم العالم فباتت محكومة بين ليلة وضحاها في حين ان شعوبا” ما ارتاحت منذ الف عام واجتمعت عليها امم العالم الانفة الذكر مع عصور ظلام عشر عجاف قضى فيها التركي 4 قرون من التجهيل والتتريك (وما ادراك ما التتريك).
باعتقادنا ان اسبابًا عديدة تقف خلف هذه المفارقة ونوجز اهمها:
- العنوان الكبير الذي اسس عليه الغرب نهضته ويكمن في صميم النظام الرأسمالي الا وهو الفردانية individualism وما تحمله في طياتها من انانية وحب ذات وتنازل عن قيم اجتماعية كثيرة بل اكثر القيم الاجتماعية الضرورية لوحدة المجتمع ووحدة نسيجه الاجتماعي التي كانت لتنهار دون احلال روح العصر المتمثلة في المواطنية المفرغة من اي مفهوم قيمي.
- وهو نابع من الاول ويتمثل في سياسات الخصخصة وسيادة الشركات العملاقة العابرة للحدود اي المتجاوزة حدود الدولة القومية وتأثيراتها السلبية على صلابة الانتماء القومي والوطني وتغليب مصالحها المادية على المصالح القومية لدول الغرب خصوصا” بعد ان باتت صانع القرار الفعلي في رسم السياسات الوطنية الداخلية والخارجية بعد تحكمها المسبق بنتائج الانتخابات التي باتت شكلية وهزلية كما اثبت الكاتب الكندي الان دونو Alain Dono e في كتابه نظام التفاهة حيث اصبح رؤساء الديمقراطيات الغربية كالدمى ( اميركا على رأسها فالصراع بين الخرف والاهبل وكلاهما خضعا خلال فترة حكمهما لامتحان الاهلية العقلية مما يضعهما على رأس القائمة التافهة وفرنسا ساركوزي ليست فرنسا ديغول…)
- وهو نابع من الاولين الذين اسقطا كل القيم واخرجها من طور التداول وخاصة القيم المسيحية وعقيدتها الاساس المتمثلة بمقولة يسوع:” ليس اروع من ان يضحي الانسان بحياته لأجل احبائه ” هذه المقولة سقطت مع سقوط المسيحية في الغرب عامة والبروتستانتي خاصة وهدمت العائلة فباتت المنفعة هي الحاكمة من رأس الهرم حتى القاعدة فاستسهل الاستسلام وسقوط الكرامة والحرية على حساب حفنة القروض الاميركية.
اما في الشرق المنكوب بتخلفه اولا” وبتفوق الغرب ثانيا” فكان عصيا” على marshal 2 لأسباب عديدة منها:
- ان تمسك الشرق بشخصيته القديمة وتاريخه وثقافته وتقديسه للأجداد ، ابقى على نظام القيم الذي كان سائدا” ومنها عزة النفس والشهامة والكرامة ، ورغم كل الفساد الذي زرعه الغرب في الحكام وجهل الشعوب لتبقى خاضعة لهم ولسياساتهم التفريقية التي لم تستطع النيل من أصحاب الارادات الصادقة والعقول النيرة
- وهو بدوره نابع من الأول، فتمسك الشرق بتراثه الدين القائم على العداء للغرب (الصليبي الاستعماري خاصة) واعتباره عدو الدين والمقدس الموروث (لم يشفع للغرب وجود مسيحيين يوالونهم، لان قلة مسيحية رأت فيهم نصيرا” لا غازيا” فكانوا سندا” حاسما” في وجه أغلب الحروب ضد هذا الغرب منذ معركة ذات الصواري). ولم تشفع تبعية الحكام وبعض المستفيدين (له بحث خاص)
- نشوء نظارة اصيلة الكون والفن والجمال في الربيع الأول من القرن العشرين أطلقها اعظم مفكري الشرق(كما وصفه احد السياسة الفرنسيين بعد سماع خبر إعدامه فقال: كان في الشرق فيلسوف ونصف، لقد قتلتم الفيلسوف ) انطون سعاده واضعا” حدود الأمة وقواعد ثباتها واستقلالها محذرا” من مشاريع الغرب الاستعماري وخاصة في مسألة فلسطين تواطؤ الغرب لزرع الكيان العبري في قلب الأمة السورية ، مؤسسا” حربا” نهضويا” مقاوما” متخذا” البذل والاستشهاد شعارا” في سبيل المجموع ( عقيدة سورية قديمة تمثلها يسوع الناصري) وجسدها سعاده بنفسه امثولة بطولة وفداء في سبيل الأمة والارض فجر الثامن من تموز 1948: ” أنا اموت اما حزبي فباق….اما ابناء عقيدتي فسينتصرون ويجيء انتصارهم انتقاما لموتي” . شعار الهب قلوب وعقول ابناء حزبه فكانوا منارات استشهاد في أحلك ساعات الليل ظلاما” خلال اجتياح العدو الاسرائيلي للبنان عام 1982 ودخول عاصمة العواصم العربية كما سماها وزير حرب العدو شارون فألهبت قوافل استشهادية قلوب الحلفاء في جبهة المقاومة الوطنية من شيوعيين وحركة آمل حماسة قبل الإعدام رعبا”…فبات الاستشهاد سلاح كل انتصار بعد خروج الجيش الشامي والقوات الفلسطينية من بيروت. ولم يعد العدو او المعتدي يملي شروطه كما يشاء وباتت جماعة صغيرة قليلة العدد تقلب معادلات كبرى وتلغي مفاعيل اتفاقيات ومؤتمرات(مؤامرات) دول كبرى أملت شروطها او تريد ذلك.
خلاصة القول ليس التعاطي مع كل الشعوب او الجماعات البشرية بأسلوب واحد.
الدكتور أنطون حداد