صداقة أميركا أكثر كلفة من عداوتها

سارع البيت الأبيض إلى رفد ترسانة الكيان الشاذ اللقيط بأطنان من الأسلحة الجديدة، بقيمة 8,7 مليار دولار، قبل غروب شمس اليوم الرابع من العدوان الوحشي ضد لبنان الشقيق. ولا غرابة في ذلك، حيث الإنحياز الأعمى للكيان وضمان تفوقه العسكري على العرب من ثوابت السياسة الخارجية الأميركية. لكن الغريب المريب، تشبث بعض مكونات النظام الرسمي العربي بالرهان على مناشدة أميركا للضغط على الكيان، كما تابعنا في مؤتمر قمة الأمم المتحدة الأخيرة.  

من دون مقدمات، ننصح بالإقلاع عن العزف على أسطوانة العجز والضعف هذه، لأن أميركا لن تضغط على الكيان ما دام الوضع العربي على هذه الحال. المسؤول العربي، الذي لا يفتأ يستجدي واشنطن كي تقدم له “السلام العادل والشامل” على طبق من فضة، واهمٌ إذا كان يتوقع حصول ذلك. وهو على أية حال واحد من اثنين: إما غير مدرك لمحددات السياسة الخارجية الأميركية، وبشكل خاص تجاه القضايا العربية، أو يعي، ولكنه يتعمد تسجيل مواقف وهو على علم مسبق بأنها لن تتحقق على الأرض.

أميركا دولة فيها وفرة في الغنى، ووفرة في القوة، وفي الرفاهية والأرض والمال. لكن مقابل هذه الوِفَرة كلها، فإنها فقيرة في التاريخ كونها دولة حديثة النشأة بمقاييس التاريخ. لهذا، تنفر العقلية الأميركية من التاريخ ولا تحبذ الكلام فيه. وبالقدر ذاته، فإنها لا تطيق المواقف السياسية المبنية على أساسه، ويشمل ذلك ما نسميه نحن الحقوق التاريخية.

التاريخ بالنسبة للأميركي يبدأ اليوم، من الوضع الراهن، تفرضه وتقرره القوة وعليه، فالحق في القاموس السياسي الأميركي ليس إلى جانب أصحاب الحقوق التاريخية، ولا مراعاة هنا للقوانين والأعراف والقيم الإنسانية ذات العلاقة، بل الحق للقوة، قوة السلاح. وقد وجد هذا المحدد تطبيقه الأول على الأرض في إبادة الهنود الحمر، سكان أميركا الأصليين. وتقدر المصادر التاريخية أعدادهم بخمسين مليونًا، عندما وطأت قدما كريستوفر كولومبس أرضهم سنة 1492، وليته لم يفعل! وقد أُبِيد منهم، على أيدي المهاجرين البيض، حوالي 48 مليون إنسان.

على هذه الخلفية تتعامل دوائر القرار في واشنطن مع القضية الفلسطينية، ومع الحقوق العربية، على غِرار ما فعل الأسلاف بالهنود الحمر. فالحق ليس إلى جانب الشعب العربي الفلسطيني صاحب الأرض، بل لقوة السلاح غير المقيدة بكوابح القيم والمبادئ والقوانين المتعارف عليها. القوة مصدر المشروعية في العقلية الأميركية، والواقع المفروض بقوة السلاح هو بداية التاريخ. القوة تحول الحقوق المغتصبة إلى حيازة بداية، ثم إلى ملكية لاحقًا. أما استجداء السلام والعدل، فتلك أسلحة الضعفاء. فالحق إلى جانب القوة، وهي التي تكتب القانون وتفسره.

على هذه المروحة من المحددات أنبنى محدد آخر للسياسة الخارجية الأميركية، ونعني إباحة التوسع على حساب أراضي الآخرين وحقوقهم، بالمال وبالقوة. في السياق، تجدر الإشارة إلى مدى التطابق بين نشأة أميركا، التي نعرفها اليوم، وبدايات زرع الكيان الشاذ اللقيط في فلسطين.

فقد ظهرت أميركا كما الكيان كبؤر استيطانية (إقرأ استعمارية) متناثرة. ولم تلبث هذه البؤر أن كَبُرت واتصلت فيما بينها، وباتت حاجتها مُلحة إلى دولة تحمي المصالح وتحافظ عليها وتعززها. بعد الاستقلال عن بريطانيا سنة 1776، أخذت أميركا تتوسع على حساب غيرها، بالمال بداية وبالقوة لاحقًا. فبصفقة بيع وشراء مع فرنسا، صارت لويزيانا أميركية. أما جزيرة مانهاتن، وفيها نيويورك، فقد باعها أحد زعماْ من تبقى من الهنود الحمر إلى شركة هولندية، ولم تلبث هذه الأخيرة أن باعتها لأميركا. ومن روسيا، في عهد كاترينا الثانية، اشترت أميركا شبه جزيرة ألاسكا شمالي كندا. وفي الأعوام 1846-1848 غزت أميركا جارتها المكسيك، وأرغمتها على قبول اتفاقية إذعان جردت المكسيكيين بموجبها من ثلث بلادهم، ويشمل ولايات نيفادا، وكاليفورنيا، وأريزونا، ونيومكسيكو. وكانت أميركا قد توسعت غربًا سنة 1845، فتملكت ولاية تكساس المكسيكية.

لهذه الأسباب، وعلى أرضية هذه المحددات للسياسة الخارجية الأميركية وغيرها مما يضيق به الحيز المتاح لمقال صحفي، فإن الأميركي لا يحسب حسابًا لأحد، ولا يرعوي أو يهتم ويرتدع إلا في حالتين: إذا سال دمه، أو نقصت الدولارات في جيبه. أميركا تحترم الأقوياء وتخشاهم، وإذا اضطرت إلى مواجهتهم فبالوكالة وعن بُعد، كما نرى في أوكرانيا. هل سمعتم يومًا أن أميركا دخلت في مواجهة عسكرية مباشرة مع أمة قوية؟!

أما الضعفاء، فهم أرقام في بورصات مصالح واشنطن وحساباتها السياسية.

بالمناسبة، “صداقة” أميركا أكثر كلفة من عداوتها. ونضع كلمة صداقة بين مزدوجتين، لأن لا أصدقاء لأميركا. فإما أندادٌ أقوياء تحسب لهم ألف حساب ولا تطيقهم، أو ضعفاء يؤمرون فيطيعون.

مقول القول تأسيسًا على ما تقدم، لن تغير واشنطن سياساتها تجاه الصراع العربي الصهيوني لصالح العرب، إلا إذا وجدت نفسها في مواجهة عرب من نوع مختلف عن أولئك الذين تتصدر صورهم وسائل الإعلام.