تشترك الآمال والآلام بجميع الحروف مع اختلاف ترتيبها. هذا أول ما خطر في بالي عند كتابة هذا المقال. فقد حمل الشهيد مشروع مقاومة عابر لسايكس- بيكو وتعاقد مع أبناء هذه الأمة على البقاء في ميدان الصراع طالما وُجِدَ الظالمون الأعداء، فمثَّل الأمل في حياته، وتسبب بالألم في رحيله على الدرب، مقدما ازكى الشهادات، فقد حمل شرف الموت في سبيل غاية وقضية. لقد كان نموذجا من نماذج سبقت وأكدت على انتصار الشهيد على قاتله وانتصار الدم على السيف والحق على الباطل.
قبل 2000 عام ونيف صاح قيافا الصدوقي، كبير كهنة اليهود بالقدس مطالبا بإعدام المسيح قائلا “دمه علينا وعلى ابنانا من بعدنا”، فاضطر بيلاطس الحاكم الروماني للخضوع لليهود فصلب السيد ورفع الله الى السماء، إلا أن المسيح من انتصر وقيافا من انهزم في معركة الزمن الطويل.
في كربلاء قُطع راس الأمام الحسين ودفن جسده في مكان وراسه في مكان آخر، لكنه انتصر باستشهاده وتحولت قصة شهادته الى مصدر الهام ولا زالت. أيضا في الثامن من تموز 1949، أُعدم أنطون سعاده وسار رافعا رأسه رابط الجأش الى عمود الإعدام مؤكدا انه بالروح والدم يفدي امته ومبادئه.
لم يكن السيد الشهيد رئيس عصابة أو قائد فرقة كشافة، وإنما قائد مؤسسة منضبطة، فيها تراتب قيادي ونظام انتخابي. وهي قادرة على اختيار من هو مناسب لحمل الأمانة وقيادة المشروع المقاوم، برغم ثقل المسؤوليات التي أضافتها عمليه الاغتيال والاختراق، الذي سيكون أمام القائد الجديد للتعامل معه في أجواء حرب ومعركة مستعرة.
يريد العدو من خلال ما جرى وما تلاحق من قصف وقتل وعدوان واغتيال الشهيد أن يغتال أيضا فكرة المقاومة والأمل بالانتصار ،الأمر الذي يتقاطع مع توجهات عالمية وإقليمية وعربية للأسف وفلسطينية، فهم يرون أن انهيار الثقة بالانتصار سوف تنهار معه الثوابت القومية والقيم النبيلة فتصبح سيطرة هؤلاء مطلقة وهنا تكون الهزيمة، والرد على هؤلاء لا يكون إلا بادراك أن المقاومة و القوة هي الوسيلة الأهم في إثبات الحقوق القومية واستردادها ولحماية المصالح العليا للامه التي لا ترتبط بشخص مهما بلغت أهميته وإنما ترتبط بالإيمان و بالثبات على المبادئ وعلى ادراك مدى خطورة المشروع المعادي.
يريد العدو، وقد يكون ذلك سريعا، كسب الوقت وللاستفادة من حالة الحزن والذهول، القيام باجتياح بري واسع قد يشمل الجنوب السوري وصولا الى بيروت، ويترافق مع تحريكه للخلايا النائمة واليقظة العاملة في خدمة الأجندات المعادية في الشام ولبنان. وهو بذلك يستنسخ التجربة الفاشلة للسلف غير الصالح- الجنرال شارون الذي ظن انه يستطيع تغيير التركيبة اللبنانية الداخلية والمجيء بجاسوس صغير رئيسا للجمهورية عام 1982، الأمر الذي أحبطه حبيب الشرتوني في الأشرفية وخالد علوان في مقهى الومبي في شارع الحمرا، فعلينا الحذر خاصة وان (الإسرائيلي) الحالي لا يعتمد على طابور خامس لبناني كما حصل عام 1982، بل على محور البركة والنعمة الذي أشار اليه في الخارطة التي حملها أثناء القاء خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة معلنا بالنيابة عنهم شراكتهم معه في مشاريعه ولم نسمع منهم ما ينفي ذلك.
الأمور العظيمة تحتاج الى تضحيات عظيمة. وهذا صراع مفتوح وطويل ويعلو في أهدافه على حسابات الموت والحياة والنصر السريع أو الإحباط وتحقيق نقطة هنا أو خسارة أخرى هناك. وهذه بداية دخول الصراع في منعطف جديد، وفي هذا الظرف البالغ الخطورة علينا معرفة ماذا يريد العدو بضرباته هذه وماذا نريد.
في هذه الوقت الصعب نتذكر قول الشاعر أبي تمام
عـــادَت لَهُ أَيّامُهُ مُســـــــــــــــوَدَّةً حَتّـــــــــى تَوَهَّمَ أَنَّهُنَّ لَيالي
لا تُنكِري عَطَلَ الكَريـــمِ مِنَ الغِنى فَالسَيلُ حَربٌ لِلمَكانِ العالي
جنين- فلسطين المحتلة