تواطأ ثالوث الجغرافيا والسياسة والضعف العربي، ليكون الأردن بالذات مكانًا لتهجير الشعب العربي الفلسطيني إليه، بعد زرع الكيان الشاذ اللقيط في فلسطين. فكانت البداية بهجرة 1948، مع إعلان زرع الكيان، ثم الوحدة بين الضفتين وتوظيفها لتسهيل التهجير بإسم “المواطنة”، أي الانتقال من جزء من الوطن إلى آخر. وما إن أصبح العدو مهيئًا على صعيدي القوة والمقدرة لابتلاع ما تبقى من فلسطين، وقع عدوان 1967 وكانت الهجرة الثالثة.
بعد “أوسلو” و”وادي عربة”، انقشع الضباب عن مزيد من ثوابت الكيان تجاه الأردن وفلسطين، وأولها، ضرورة إبقائهما تحت السيطرة. وثانيها، عدم السماح بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة متصلة الأجزاء وقادرة على الاتصال مع العالم الخارجي ما استطاع الكيان إلى ذلك سبيلًا. فأقصى ما يمكن أن يقدمه للفلسطينيين “شيء ما” أقل من دولة وأكبر من حكم ذاتي، كما قال وزير خارجية أميركا الأسبق جيمس بيكر، بعد بدء فعاليات مسرحية مدريد للسلام.
ولا يفتأ قادة العدو يؤكدون، بمناسبة أو من دونها، تمسكهم بالبقاء في غور الأردن. وليس لهذا الأقنوم الصهيوني سوى معنيين: إبقاء الأردن تحت التهديد في مرمى نيران العدو، وعدم الاعتراف به دولة، بل مكانا لحل ما يسميه سياسيو الكيان واعلامه مشكلة الديمغرافيا المؤرقة.
في هذا السياق وليس خارجه، نرى ممارسات الكيان مع سلطة أوسلو، لجهة تهميشها وتجريدها من أسباب وجودها، ثم دفعها إلى الاضمحلال والتلاشي. وهي في المقابل، لا تملك سوى التهديد بحل نفسها. في السياق ذاته أيضًا، نقرأ ما يمر به الأردن من ظروف اقتصادية صعبة، يلمس الأردنيون تبعاتها في بطالة تتضخم وجيوب فقر آخذة في الاتساع. وماذا عن “الخصخصة”، والصحيح لُغةً التخاصية، وما ترتب عليها من تشريعات نقرأ فيها ما يُنهي دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي؟!
ولا ننسى ظاهرة العنف في الجامعات، وثنائية فيصلي- وحدات المقيتة، وغرغرة اسطوانة الحقوق المنقوصة.
كل ما ذكرنا يصب في مجرى هدف واحد يتهيَّأ الكيان الشاذ اللقيط لتحقيقه، وخاصة بوجود حكومة الفاشية الدينية، ونعني تهيئة الظروف لترحيل الشعب الفلسطيني من أرضه وتصفية قضيته على حساب الأردن وفلسطين.
بعد طوفان الأقصى وتفاقم أزمات الكيان، لم تعد العصابة الصهيونية الحاكمة تخفي هذا الهدف، ولا يتردد بعض ممثليها، ومنهم المدعو سموت ريتش، في الجهر به عيانًا بيانًا. ولعل من أوقح تبديات ذلك خرائط تظهر فجأة ما يسمونه “أرض اسرائيل”، شاملة فلسطين والأردن. ومنهم من يوسع الخارطة، لتشمل جنوب لبنان أيضًا، والمساحات الممتدة من نهر الليطاني وحتى سيناء، ومن الجولان حتى البحر. وليس يفوتنا التذكير بالأسطورة التوراتية: “أرضك يا اسرائيل من الفرات إلى النيل”.
خلال الشهور الأحدَ عشَرَ الفارطة، لحظنا تكرار تعبير “الحرب الوجودية” على لسان مجرم الحرب نتنياهو وأركان حكومته. ويقصدون بذلك، على وجه التحديد، تهجير الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي. وهذا هو الهدف الاستراتيجي لحرب الإبادة في غزة، وقد بدأت تنتقل شيئًا فشيئًا إلى فلسطين المحتلة 1967.
هستيريا “الترانسفير” تشتعل في الكيان، وعادة ما تستصحب ثالوث “يهودية الدولة” و “الوطن البديل” و “الحلم الصهيوني”. هذا الأخير مشروط تحقيقه بحسب هلوساتهم المرضية، بإخلاء فلسطين من أهلها. وعلى هذا الأساس أُقر ما يُسمى قانون يهودية الدولة، سنة 2018. أما الوطن البديل، فهو الأردن على وجه التحديد، ولكن لماذا الأردن؟!!!
الأردن في العقل الصهيوني، فلسطين الشرقية. فهم يعتقدون أن وعد بلفور “أعطاهم” مساحة من الأرض أوسع بكثير من تلك التي زرعت بريطانيا كيانهم فيها. وبالتالي، فإن فلسطين كاملة لليهود، وليس أمام أهلها الفلسطينيين، إلا واحد من خيارات ثلاثة: الرحيل، أو الموت، أو الرضوخ. أليس هذا ما قاله المذهون سموتريتش بحرفه وحذافيره؟!!!
ولا نستبعد أن يكون تهجير الشعب الفلسطيني إلى الأردن ما قصده الرئيس الأميركي الأسبق والمرشح لانتخابات الرئاسة الأميركية الحالية، دونالد ترامب، في تصريحاته الأخيرة عن “اسرائيل الصغيرة، التي يجب توسيعها”.
في الآونة الأخيرة، ارتفع منسوب القلق لدى الأردن الرسمي والشعبي من تبعات العدوان الصهيوني ضد فلسطين المحتلة 1967، المسماة في الأدبيات الأردنية الضفة الغربية. ويتابع الأردن بقلق أيضًا ارتفاع نبرة الأصوات الداعية إلى الترحيل الجماعي للفلسطينيين نحو الشرق، إلى الأردن “الوطن البديل”. وهذا ما دفع الأردن الرسمي إلى التحذير، على لسان وزير الخارجية أيمن الصفدي، من أن “أي محاولة لتهجير فلسطينيي الضفة إلى الأردن إعلان حرب علينا”. والذي نراه أن هذا التصريح لا يجوز أن يمر من دون تساؤلات مُحقة، تضع الضروري من النقاط على الحروف. فهل اكتشف الأردن الرسمي فجأة في اسرائيل عدوًّا، يشكل خطرًا وجوديًّا علينا بأشكال عدة، منها احتمال ترحيل أهل الضفة بالقوة نحو الشرق؟!!! وماذا بشأن اتفاقية وادي عربة لسلامٍ تأكد أنه سرابٌ ووهمٌ، فضلًا عن خرقها من جانب العدو عشرات المرات؟!!! وماذا بخصوص اتفاقيات الغاز والمياه، وكل هذه الاتفاقيات مرفوضة شعبيًّا؟!!! ألم يحن بعد أوان المراجعة النقدية للسياسات التي أوصلتنا إلى هذه الاتفاقيات ومساءلتها؟!!!
وفي الرد على سؤال قد يطفر على لسان قارئنا عن الحل، لا نرى مخططات الكيان وداعميه قَدَرًا لا ردَّ له. فلا يوجد مخططات ثابتة غير قابلة للتغيير، والسياسة تتعامل مع الممكن والواقع، وهما متغيران باستمرار. والمخططات السياسية لا تُوضع أدواتها كاملة، بل تعتمد على الظروف اللاحقة، ومن طبيعي أمرها أنها متحولة. على صعيد الكيان الشاذ اللقيط، فقد تأكدت هشاشته وثبت ضعفه يوم صولة الطوفان التاريخية البطولية، وراعيته أميركا ليست في أفضل حالاتها. والأردن بالذات كابوس يخشى الإحتلال تحريكه، أقله من زاوية الحدود المشتركة مع فلسطين المحتلة على امتداد حوالي 360 كيلومترًا ويزيد. وهناك قوى مقاومة عربية يعرف الأردن الرسمي عناوينها، وتحظى بتقديرٍ واحترامٍ عاليين لدى الأردن الشعبي.