منذ إعلانه كدولة، ولبنان في حالة تخبط دائم وكأن تميمةً ما جعلته مصدر قلاقل للداخل والمحيط. وفي مراجعة لتاريخ هذا البلد، باستثناء مرحلة ما قبل الدخول الفارسي القديم أي المرحلة الموغلة في القدم عندما اعتمد كمصدر للتجارة والحرف، لا تجد ما هو ناصع في تاريخه. حتى أن كتاب تاريخه الرسمي فيه من الأحجية لا يمكن لكبار المنجمين فكفكة طلاسمه. وكان الاعتقاد بأن مرحلة تصحيح ممكنة عندما دخل جيش الجمهورية السورية إلى لبنان لإيقاف الحرب الأهلية، وذلك نظراً للعقيدة الوحدوية التي نشأ عليها، خصوصاً بعد الحركة التصحيحية التي يحتفى بها سنوياً في دمشق.
المشهد الحالي ليس للبنان وحسب، بل وللمنطقة بأسرها يمكن له أن يفتح طاقة امل جديدة للشروع في بناء الدولة، لأن ما بني لتاريخه لا ينم عن فهم حقيقي لماهية الدولة، رغم تبجح البعض بتشييدهم لمرتكزاتها وإلقاء التعثر الذي واجههم لاحتلال فلسطين والأوضاع الإقليمية والدولية.
لكيلا نبقى بدوامة الإخفاقات وإلقاء اللوم على الآخرين علينا وضع لائحة للأسباب التي أدت إلى كل تلك الإخفاقات وفصل ما هو ذاتي عما هو موضوعي.
يمكن القول في هذا الصدد، إن لبنان مؤهل أكثر من غيره ليكون قاطرة للدولة الحديثة في هذا المشرق، حتى بتفاصيلها الدقيقة، وذلك نظراً لما مر به من ظروف قاهرة كاد معها أن يتبخر كدولة، إنْ بسبب الحرب الأهلية أو الحروب الصهيونية المتتالية لفرط عقده الاجتماعي “الموزاييكي” والعودة لمشروع سايكس/بيكو الأساسي بإنشاء دويلات طائفية يتربع أحفاد موسى المزيفين على عرشها جميعاً. كما ولأن أبناءه على مختلف توجهاتهم عاشوا بظله ينعمون بحرية مفقودة في كل هذا الشرق حيث الزعامة الأحادية المفرطة والإيديولوجيات من دينية وغيرها هما النموذجان الأنصع للدول. كلام قد يجد فيه البعض مغالاة لكن من يتمعن بالمشهد وكيف أفضت تلك الحرية لمقاومة عز نظيرها وتقوم بواجبها اليوم على أكمل وجه في الهاء الصهاينة في جبهة الجنوب عن الاستفراد بغزة التي لم تترك لمصيرها وحسب، بل ويتلقى مقاوموها شتى أنواع الاتهامات من قبل اليعاربة الذين كما قال درويش أطاعوا رومهم.
أقنوم الحرية إذا ما أضفنا إليه الخبرات التي يتمتع بها شعب لبنان في شتى ميادين الحقول والمعارف، إن لمؤسساته التعليمية الرائدة أو لانتشاره في شتى أصقاع المعمورة دون أن يفقد الاتصال مع بلده الأم، الأمر الذي اكسبه ميزات لا تتوفر بمحيطه لطبيعة الأنظمة المحيطة وإهمالها لملف المهاجرين.
كل ذلك إذا ما توفرت قيادات تتمتع بروح المسؤولية على الصعيدين الوطني والقومي وتضع نصب أعينها مصالح الشعب ككل، يمكن معه إنشاء دولة لم يعهدها لبنان لا بتاريخه القديم ولا الحديث، دولة ترعى جميع أبنائها وتنظر اليهم كأسنان المشط وترعى العلاقة مع المحيط المشرقي كونه الحاضنة الأكبر للوجود أمام صراع الأمم للبقاء وتحديات ما بعد القطبية الأحادية، دولة مواجهة للأطماع الخارجية، حيادية في داخلها بمكوناتها التاريخية، دولة العدالة وتكافؤ الفرص، وفوقهم جميعاً مؤسسات ترعى الشؤون من نظام الحكم لأبسط الخدمات من خلال مبدأ أساسي لا استقرار لحكم من دونه، ألا وهو الديمقراطية وتداول السلطة .