لعل مصطلح العولمة هو الأكثر تداولاً واستعمالاً في الإعلام وفي الأوساط السياسية والإقتصادية، كما في الأوساط الأكاديمية والفلسفية أيضاً، وهو بنفس الوقت الأكثر تحميلاً لمعاني ومقاصد مختلفة ومتضاربة.
إن ازدحام المصطلحات في وسائل الاعلام، في وقت أن الوسائل الإعلامية هي نفسها كثيرة ومتزاحمة ومتسابقة، أدى ويؤدي الى خلط وتشويه كبير في معاني هذه المصطلحات وفوضى عظيمة في مفاهيم يفترض أن تكون واضحة وجلية.
إن مصطلح العولمة هو المثل الرائع على هذا الخلط وهذه الفوضى. فالإيحاءات متعددة ومتضاربة حول معناه والمقصود منه.
فمن المعنى الفلسفي لمصطلح العولمة حيث النظريات الإرتجالية المتسرعة التي تقول بأفول، أو حتى سقوط مفهوم القومية ومفهوم “الواقع الاجتماعي” من العالم لصالح مفهوم المجتمع العالمي أو حتى مفهوم “القرية العالمية”.
الى المعنى العلمي حيث الإفراط في التفسيرات المبالغ فيها حول تأثيرات ازدياد وازدهار وسائل الإتصالات وسرعتها وسرعة تطورها، وما ينتج عنها، زعماً، من إلغاء الحواجز والحدود والإختلافات في شخصيات الأمم وخصائصها الإجتماعية والثقافية والنفسية.
الى المعاني الإقتصادية لهذا المصطلح وما تحمله من أهداف إزالة كل ما يمنع إنفتاح أسواق العالم كله للإنتاج الزراعي والصناعي للدول الكبيرة المسيطرة، دون “عوائق قومية” لدى المجتمعات والدول الأخرى المسَيطر عليها، ودون كوابح من سياسات هذه الدول الاخرى لضبط إنتاجها القومي وتوزيعه وحمايته من منافسة الإنتاج الوافد من دول أخرى.
نحن نرى أن التأويلات الفلسفية لمصطلح العولمة، كما محاولات إعطائه تفسيرات علمية تقول بأن الإقتصاد هو مثل الثقافة ومثل العلم، عالمي وملك البشر أينما كانوا، وهذا تضليل كبير، إنما هي لخدمة الهدف السياسي- الإقتصادي للدول والأمم المسيطرة. ولا نبالغ أبداً إذا قلنا أن مصطلح العولمة يخفي مصالح وأهداف أمنية وعسكرية أيضاً. فالعالم اليوم يشهد لأول مرة في التاريخ كيف أن الدولة الأميركية المهيمنة في العالم إقتصادياً وعسكرياً، وبالتالي سياسياً، لا تتورع عن استعمال أساليب الحصار والعقوبات والضغط والتهديد لإغلاق أسواق في العالم وفتح غيرها، وكأن أربعة أطراف العالم هي مرسح واحد وملعب واحد تكون فيه هي نفسها اللاعب الوحيد والحكم الوحيد في نفس الوقت.
أولاً: العولمة مصطلح جديد لقضية قديمة، وسعادة انتقدها بشدّة.
لا يختلف مصطلح العولمة ومضمونه الظاهر والمستتر على السواء عن مفهوم “الأممية”، أوالحكومة العالمية، أو حتى مفهوم “يا عمال العالم إتحدوا”. فهذه المقولات والمصطلحات التي سادت وانتشرت خاصةً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية في النصف الأول من القرن الماضي، تعود وتظهر اليوم تحت مسمى جديد هو مسمى العولمة.
بتاريخ 15-4-1949 كتب سعاده مقالته الخالدة “حق الصراع هو حق التقدّم” في جريدة “كل شيء”، إستهلها بالكلام على العناوين السياسية التي كانت حاضرة في ذلك الوقت، قال: “الانترناسيونية الشيوعية الروسية والعالمية الأميركانية ومنظمة الأمم المتحدة ومؤسستها الثقافية (الأونيسكو) والمؤتمر الثقافي العالمي والجمعيات الدينية باشكال عديدة- وجميع هذه مؤسسات تريد في الظاهر وحدة إنسانية وسلاماً عالمياً دائماً” (الاعمال الكاملة ج8 ص 324).
إن مقالة “حق الصراع هو حق التقدم” هي مقالة سياسية تناول فيها سعادة الناحية السياسية- الاقتصادية من مفهوم العولمة الذي ظهر آنذاك تحت مسميات مختلفة. لكن لسعادة موقف فلسفي مبدأي من هذه القضية موجود في مبادئ الحزب الأساسية، كما له موقف علمي حاسم منها في كتابه “نشوء الأمم”. أما موقفه وموقف الحركة السورية القومية الاجتماعية السياسي من هذه القضية فبديهي أن يكون منسجماً مع ومبنياً على الموقفين المبدئيين العلمي والفلسفي.
في العودة الى مقالة سعادة السياسية التي تحمل موقفه السياسي فأننا، لشدة وضوحه، لا نحتاج لشرحه إلا إيراد عباراته حرفياً، يقول:
“لا تعني الوحدة الانسانية وحدة حقيقية لجميع الناس وتساوياً تاماً في التمتع بموارد الخير وفي توزيع الموارد الأولية الموجودة في الارض على جميع الناس بالتساوي. ولا تعني صيرورة الناس أمة واحدة في وحدة الحياة والشعور والنظر الى الحياة”. ويضيف:
“لا تعني وحدة الحركة العمالية الطبقية الشيوعية في العالم أن العمال السوريين ستكون لهم حالة مساواة في الحياة والمعاشرة والمنزلة والنتائج مع العمال الروس والفرنسيين والانكليز وغيرهم، فخصائص الشعوب ونفسياتها لا تزول بمجرد فكرة سياسية أو اقتصادية. ولا تعني العالمية الاميركانية أن الأميركان هم مستعدون لمقاسمة جميع الشعوب الفقيرة خيرات بلادهم الاميركانية. ولا تعني الأونيسكو والمؤتمر الثقافي العالمي غير دعوة كل فئة الى سلام تسيطر عليه الأمة الأقوى وتضبط بواسطته حالة جميع الأمم وتحافظ على سيطرتها وما تعنيه سيطرتها من إمتيازات لشعبها ومن خير يمكنه أن يُلقى بفتاته الى بقية الشعوب.”
هكذا يكشف سعاده الباطن المستور من شعار الوحدة العالمية والسلام العالمي، ويعلن موقفه وموقف الحركة القومية الاجتماعية التالي:
“أن الاستسلام لفكرة الوحدة العالمية والسلام العالمي الدائم يعني التنازل عن الصراع والحرية وعن الحق والإنتصار. والأمة التي تتنازل عن الصراع تتنازل عن الحرية، لأن الحرية صراع!
إن النهضة القومية الإجتماعية لا ترفض السلام العالمي الدائم بعد أن تكون قد حققت إنتصاراتها العظمى التي تجعل للأمة السورية مرتبة ممتازة في السلام وفي حقوق السلام. أما السلام العالمي بعد تجريد الأمة السورية من حقوقها القومية في كيليكية والاسكندرون وفلسطين وسيناء وقبرص، وبعد تجريدها من مواردها الطبيعية، فماذا يعني لها غير الذل والفقر والفناء؟”.
والحقيقة أن موقف سعاده لم يعلنه فقط في مقال سياسي في جريدة سياسية، بل نستطيع قراءته في مبادئ الحزب، في نظرة سعادة الى الانسان، وفي النظرة القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن الظاهرة في جميع شروح سعادة لمبادئه وعقيدته وفلسفته، كما نستطيع قراءته في كتابه العلمي نشوء الأمم الذي “يوضح الواقع الإجتماعي الإنساني في أطواره وظروفه وطبيعته، ففي الدرس تفهّم صحيح لحقائق الحياة الإجتماعية ومجاريها. ولا تخلو أمة من الدروس الاجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الأفكار”.
ثانياً: وضوح سعادة في مقابل تهافت وهفت بعض تلاميذه.
إن “فوضى الأفكار وبلبلة العقائد” التي حذر منها سعاده لم يسلم منها حتى بعض تلامذته أنفسهم. فرغم وضوح سعاده وتصنيفه للأفكار والمقولات والمصطلحات بين ما هو علمي أو فلسفي أو سياسي، فإن قلة الدرس والبحث لصالح النزوع الشديد الى الإرتجال في المواقف السياسية دون أساس من علم وعقيدة، قد أدى بالبعض الى تبني مقولة العولمة والعالمية والأممية. إن المواقف المرتجلة لم تستطع التمييز بين عولمة السيطرة وإخضاع الأمم، من جهة، وبين عالمية الدعوة القومية الاجتماعية من جهة أخرى. إن قول سعادة في رسالته الى القوميين الاجتماعيين سنة 1947 بأن الأمة السورية هي “أمة معلمة وهادية للأمم بنّاءة للمجتمع الإنساني الجديد وقائدة لقوات التجدد الإنساني بروح التعاليم الجديدة التي تحملون حرارتها المحيية وضياءها المنير الى الأمم جميعها”، وقوله أيضاً أن “هذا العالم يحتاج اليوم الى فلسفة جديدة وأن هذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج اليها العالم- فلسفة التفاعل الجامع الموحد القوى الإنسانية- هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم”. إن هذا القول وهذه الفكرة تختلف إختلافاً جذرياً عن فكرة السيطرة على الأمم الضعيفة والمغلوبة التي ذكرها في مقالة “حق الصراع هو حق التقدم”.
وبعد ثمانين سنة من صدور كتاب نشوء الأمم لا زال كثير من القوميين الإجتماعيين يسيئون فهم عبارة سعادة: “من يدري هل يقدر للانسانية أن تصبح مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور” ويؤولونها عكس معناها الحقيقي ويرددون ببغائياً ويقولون: “سعادة سأل نفسه هل يصبح العالم أمة واحدة في المستقبل، فأجاب: من يدري”. أما الحقيقة فهي أن سعادة لم يسأل ولم يجب، وهو برئ من هذا التأويل الأعوج المستعجل اللجوج الذي يريد أن يقول: صحيح أننا اليوم أمة سورية تامة ولكن يمكن أن نصبح أمة عربية في المستقبل، والأمة العربية قد تختفي ويصبح العالم أمة واحدة، بما يوحي أن هذا المستقبل هو مستقبل قريب.
أما حقيقة قول سعاده فهو أنه في الفصل السادس من كتاب نشؤ الأمم الذي عنوانه “نشؤ الدولة وتطورها”، وتحت العنوان الفرعي الأول “الثقافتان المادية والنفسية”، وفي الفقرة الثانية يقول:
“ولقد تكلمنا على الإجتماع البشري وأشرنا الى أنه عريق في القدم وأنه صفة بشرية عامة، حتى أن ما قلناه في هذا الصدد ليحمل على الإعتقاد أن إجتماعية الانسان شيوعية بلا حدود أو قيود، والواقع غير ذلك، فالمجتمع الانساني ليس الانسانية مجتمعة، ومن يدري هل يقدر للأنسانية أن تصير مجتمعا واحدا في مستقبل العصور”.
إن سعاده في قوله أعلاه كان يتابع شروحه العلمية حول معنى إجتماعية الانسان تمهيداً للدخول في معنى الدولة وواقع الدولة الذي هو المجتمع. كان سعاده يوضح ما يعنيه بعراقة الإجتماع البشري في القدم وما يعنيه بأن الإجتماع هو صفة بشرية عامة، كي لا نسيء فهم المقصود من عبارة “صفة بشرية عامة” وكي لا نظن أنها تعني أن المجتمع الإنساني هو الإنسانية مجتمعة، وكأن الانسانية مجتمع واحد. يريدنا أن نفهم بأنه حيثما وجدنا الانسان وجدناه بحالة أجتماعية، دون أن يعني ذلك أن الإنسانية مجتمع واحد.
سعاده يريدنا أن نعرف أن “الواقع غير ذلك”، الواقع ليس مجتمعاً إنسانيا واحداً، وأنه لا أحد يستطيع القول أو يدري إذا كانت الإنسانية سيقدر لها أن تصير مجتمعاً واحداً في مستقبل العصور. أما العصور فهي قياس الأزمنة الطبيعية، كأن نقول العصر الجليدي أو العصر الحجري أو المعدني . وعبارة مستقبل العصور تعني مئات الآلاف من السنين المقبلة.
أننا في هذه المناسبة نهيب بجميع الرفقاء السوريين القوميين الإجتماعيين أن يدرسوا سعاده بهدوء والكف عن الترديد الببغائي للخرافة، بل للكذبة التي تقول أن سعاده سأل نفسه وأن سعاده أجاب نفسه، ولكل هذه الحكاية السخيفة التي لا تعني إلا أنه غداً ستصبح البشرية مجتمعاً واحداً. إن معنى قول سعاده الآنف الذكر هو تماماً عكس ما أراد البعض تحميله.
“إن حياة الأمم هي حياة حقيقية لها مصالح حقيقية”، عبارة رددها سعادة ثلاث مرات في محاضرته السادسة التي شرح فيها المبدأ الأساسي السابع. ولا يمكن لأية فلسفة في العالم، ولأية سياسة، أن تلغي واقع الحياة الإنسانية مجتمعات وأمم لها حياتها ومصالحها ولها شخصياتها المستقلة ومطالبها ومثلها العليا.
إن فكرة العولمة، القديمة- الجديدة، ومهما زيّن لها فلاسفة وعلماء ومؤرخون وسياسيون، هي فكرة غير واقعية ولا تتوافق مع حقائق الحياة البشرية، ولا تستجيب لمطالب الشعوب في العالم، وبالتالي هي غير قابلة للتحقيق. لذلك نرى كيف يتم تسويقها بالتضليل والأكاذيب والخداع، وكيف أن من يحمل لواءها اليوم هم سياسيو الدول الاستعمارية المسيطرة والتي تتوسل القوة العسكرية لفرض سيطرتها على العالم.
وشتان بين السيطرة بالقوة العسكرية وسياسة العقوبات وتهديد مصالح الشعوب، وبين “قيادة قوات التجدد الانساني بروح التعاليم الجديدة وحرارتها المحيية وضيائها المنير”.
الرفيق شحادي الغاوي