” آخر شيء أتذكره، أنني كنت أركض بحثاً عن الباب، كان عليّ أن أجد الممر عائداً إلى المكان الذي كنت فيه سابقاً.
الحارس الليلي قال: اهدأ فنحن مبرمجون لكي نستقبل، يمكنك أن تطلب المغادرة أي وقت تشاء، إلا أنك لن تستطيع المغادرة أبداً “. \ أغنية Hotel California- Eagles \
سنوات وسنوات على مواقع التواصل، يحمل عالم الإنترنت وجوهاً عديدة، وبغض النظر عن الدافع العولمي لتأطير الكائن الإنساني في إطار يصعب الانفكاك منه غير أننا سنقارب \ على الأقل من تجربتنا \ واقع التواصل الافتراضي الذي يتطلب وعياً عالياً ومحاكمة منطقية علمية لما نصادفه من أفكار وصفحات وضخ من المعلومات التي تتراوح بين العلمية وبين الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها.
الإضاءة هنا تختص بتاريخ وآثار المشرق والمآلات المحتملة للحد من اللحاق بالوهم، ومقاربة أكثر دقة لما يُطرح في ذاك العالم الفوضوي الصاخب.
ما يلفت العقل هنا عدة محددات:
أولها، هذه الفوضى المعرفية حد التناقض في المعلومات والأفكار، لا يخفى هنا تلك العواطف والمشاعر الواقفة خلفها بين كل المتحاربين وعارضي الأفكار.
بشكل عام، تفتقر مواقع التواصل للعلمية في طروحاتها، تُحرّكها غايات بعضها سياسي وبعضها شعوبي وقومجي، واللافت هنا هو ضروب التعويض التي تتبدى لاسيما لدى المجتمعات المحبَطة والمنهارة بالحروب، بحيث يلجأ الناشر إلى المبالغات وتضخيم الذات الجمعية المبنية على أكاذيب لتحقيق توازن في المستوى النفسي له ولبعض شرائح مجتمعه الأولية الثقافة، هنا يأخذ الأمر نمط شحن غرائز شعبوية أو قومجية وحتى دينية لتحقيق الهدف المرتجى.
ثانيها، مواقع تتبع مؤسسات لدول واحتلت أجزاءً من دول مجاورة بما في ذلك مواقعها الآثارية، وبالتالي تُجير كل المواقع ومعطياتها المادية والروحية لتاريخها الغريب عن تلك المواقع، يحضر هنا مواقع وصفحات تتحدث عن أنطاكية ” التركية” مثلاً، حتى أن موقع كركميش المشرقي يصير اثنان بحكم الاحتلال فيصير هناك كركميش السورية وكركميش التركية رغم الأصل الأموري الواحد للموقع.
هذا من جهة الدول خارج المشرق في التعامل المزيف مع مواقع لا تنتمي لتاريخها.
وبدرجة أقل نجد وفقاً لثنائية سايكس – بيكو، العنعنات بين بعض المواقع المنتمية لدول مشرقية حيث تبرز ظاهرة التجزيء وكأنها بديهية، وهكذا يصير الأنباط أردنيون سيطروا على بلاد الشام!! أو تلك الفينيقيات المسلوخة عن كنعانيتها وأموريتها لغايات عرقية أو دينية صافية، غير متناسين الضخ العروبي إياه في إلباس العباءة العربية لكل من كان على هذه الأرض متجاوزاً أول ذكر صريح للعرب في المشرق في الوثائق الآشورية العائدة للثلث الأول من الألف الأول قبل الميلاد.
هذا بالتداعي الحر يفرض حضور مسألة الدين مندمجاً مع إثنية لتحقيق فوضى معرفية ممزوجة بالخرافة.
ولا تخفى هنا صفحات لقوميات يُشك في وجودها التاريخي محاوِلة مصادرة المواقع المشرقية لغيابها التاريخي عنها بدعوى لغة ما اشتملت عليها لغات المشرق قديماً وإلصاقها بها عنوة بلا أدنى رابط تاريخي آثاري موضوعي، بذا نجد مواقع مشرقية أُلبست هوية مختلفة وهكذا.
ثالثها، ولنسمها المصطلحات والتعابير الداشرة، أطرح مثلاً، المسرح الروماني في بصرى، في تدمر وهكذا..
نحن نعلم أن إطلاق تسمية “مسرح” على تلك العمائر قد لا يكون صائباً، ففي تاريخ المشرق لا وجود لنصوص مسرحية وثائقياً ولا ذكر لهكذا نشاط اجتماعي في الوثائق، هي مدرجات لفاعليات رياضية أو اجتماعية لا أكثر.
ثم إلباسها هوية رومانية!! أيضاً لم تذكر الوثائق مجيء معماريين وبنائين رومان لإنشائها، فقط هناك أخبار المعمار الدمشقي الذي استدعاه الامبراطور تراجان لإشادة عمائر في روما وغيرها، فمن استدعى الآخر هنا؟
رابعها، الطرافة في المواقع والصفحات العالمية وغيرها التي تتذاكى بغباء ممجوج وثقيل، التي تحفل بتاريخ ” إسرائيل ” وآثارها ومواقعها التي ترقى إلى التواجدات المنتصبة والنياندرتالية والعاقلة، فها هي لقى أثرية تعود للعصر النيوليتي ” إسرائيلية”!! وذاك موقع إسرائيلي اسمه مجدو!! تلك المدينة الكنعانية الأمورية وهكذا. ولاننسى مواقع الجولان المحتل هنا.
الغريب هنا هو أن النشاط التواصلي للمؤسسات والأفراد في المشرق لا يكلف نفسه الاطلاع على ذلك التحريف والتزوير ويناقش أو يشير بنقطة نظام لما ينشر، مقابل التهافت الكبير لمسلوبي العقول لتصديق ما يُنشر في تلك الصفحات.
مقابل كل هذا، نجد صفحات ومواقع بغايات علمية ومعرفية دقيقة وموضوعية ولاسيما التي تتبع مراكز وجامعات مرموقة يعول على منشوراتها. الواقع الافتراضي التواصلي سلاح إنساني مهم إن استخدم بوعي وثقافة وحقيقة علمية تفرض نفسها، لكن ما نراه هو مستنقع آسن ينبغي الاصطياد فيه للفوز بشجرة خضراء من المعرفة التي تحترم نفسها
د بشار خليف، باحث في تاريخ المشرق، وطبيب أسنان.
من مؤلفاته:
دراسات في حضارة المشرق
العبرانيون في حضارة المشرق
حوارات في الحضارة السورية
مملكة ماري
نشوء فكرة الألوهة
تاريخ المشرق قيد الطبع