أرض الميعاد والأديان الإبراهيمية – الحلقة الثانية

اليهودية التلمودية الحاخامية

في الشتات وخاصة الأوروبي منه حاول الحاخاميون تفسير التوراة عبر التلمود بما يتناسب مع وضع اليهود باعتبارهم جماعات منتشرة في العالم وليس كجماعة مستقرة في ’ أرضها‘او كديانة مرتبطة بهذه الارض. لتحقيق ذلك غلّبت اليهودية الحاخامية “الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي بحيث يحل الاله في الشعب ويملؤوه قداسة تعزله عن العالم المُدّنس العادي حوله” ولكنها “استعادت شيئا من الثنائية التكاملية التوحيدية بدل من الواحدية الحلولية” بجعلها العودة الى ارض الميعاد مرتبطة بالأمر الإلهي وشرعت “على ضرورة انتطار الماشيّح في صبر وأناة حتى يأذن الاله” (4-ب).    

عبر هذه المعتقدات او التأويل عُزِل اليهود في الغيتوات ثقافيا عن الشعوب المسيحية التي عاشوا بينها، واجتمعت مصالح الحاخامات مع مصالح اثرياء اليهود المستفيدين من عزل اليهود (ودورهم الوظيفي المجتمعي في العمل في الربى وغيره)، وأصبح الفريقان يشكلان النخبة القيادية المرتبطة المصالح بالشعوب التي تعيش بينها وبالأخص بالطبقة الحاكمة منها. بذلك “لم تعد اليهودية مرتبطة بالمكان وأصبحت العودة مفهوماً دينياً وعملاً من أعمال التقوى، وأصبحت صهيون صورة مجازية دينية”. هذه المفاهيم “اليهودية الحاخامية” او “التقليدية” او “التلمودية” سادت بين القرن الثامن والقرن الثامن عشر تقريبا ولخصها الكاتب ’ الحاخامي ‘يعقوب رابكن في كتاب “ما هي إسرائيل الحديثة؛ What is Modern Israel “ (5) بالتالي:

  1. علاقة اليهودي بأرض ‘إسرائيل ‘تختلف نوعيا عن علاقة الفرنسي بفرنسا او الروسي بروسيا. ‘القومية ‘اليهودية مختلفة عن كل القوميات الأخرى بانها قومية روحية أساسها التوراة وكل من لا يعترف بها كذلك، ينقض أسس اليهودية، حسب الحاخام جهيل يعقوب وينبرج.
  2. ‘أرض إسرائيل ‘يمكن ان تُأخذ فقط عبر التأثير العام للأعمال الصالحة التي تتجلى ذروتها بعودة الماشيّح. بعكس غزو يشوع بن نون لأرض كنعان او ‘عودة ‘البعض من بابل الذين تمّ بفعل قوى أرضية (الانسان)، العودة النهائية ستكون فقط من صنع الله.  
  3. المنفى او الشتات في اليهودية التقليدية هي “حالة روحية غير مكتملة” او “حالة من فقدان التواصل مع الوجود الإلهي” وليست غربة او بعد عن ارض ‘اسرائيل‘.
  4. حسب التلمود فهناك ثلاثة أقسام (من قسَم) أو عهود في ليلة شتات اليهود الى الزوايا الأربعة من الأرض وهي
    1. ان اليهود لن يعودوا كمجموعة وبالقوة الى ارض ‘اسرائيل‘
    1. ان لا يثوروا ضد الأمم التي استقبلتهم
    1. ان تُقسِم هذه الأمم على عدم اخضاعهم بشكل مفرط.

مع ان اليهودية الحاخامية كانت الأكثر شيوعا حتى القرن التاسع عشر فهذا لم يمنع من فترة لفترة بروز التوجه القومي عند بعض اليهود الذين كانوا يؤمنون بحرفية الوعد الإلهي ويبررون أي محاولة ’ إنسانية‘للعودة. أبرز هذه الحركات كانت حركة الحاخام شبطاي تسفي (6) الذي ادّعى انه الماشيّح المخلص في 1648 في أزمير العثمانية وانه سيقود اليهود الى ارض الميعاد وزار القدس في 1665 فأيده يهود أزمير وغيرهم وحاربه يهود محافظون آخرون والحاخامات الرسميون ومنهم حاخامات القدس وحاكمته الدولة العثمانية وفشلت محاولته وأُجْبر على اعتناق الإسلام لتفادي الإعدام.

اليهودية القومية الصهيونية

انتشر مفهوم “اليهودية القبّالية الصوفية، Kabalah” في القرن الثامن عشر ومن بعدها “اليهودية القومية” المتمثلة بالحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر.  السبب الأساسي في هذا التعاظم للقومية اليهودية هو تصاعُد الحلولية الكمونية اليهودية، أي الايمان بالحلول الإلهي في الشعب والأرض والذي بموجبه أصبح الشعب مقدسا والارض مقدسة (والعودة أصبحت غير مرتبطة بالأمر الإلهي ورجوع الماشيّح). يمكن تلخيص اليهودية المحافظة او اليهودية القومية (العلمانية والدينية) التي تعتبر بمثابة ثورة على اليهودية الحاخامية بما يلي:

  1. في إطار الثالوث الحلولي (الاله\التوراة، الشعب، الأرض) تبرز أهمية ’ الشعب اليهودي ‘على العناصر الأخرى فيضفون قداسة على تراثه وتاريخه وتُرْجِعُها اليهودية المحافظة “الى ـأصول قومية او روح الشعب ويصبح الدين اليهودي فلكلور الشعب اليهودي المُعبّر عن هويته الاثنية وسر بقائه”(4-ج). بالتالي، امتزج الاله بالأرض والشعب وانحسرت أهميته المركزية لصالح الشعب وأصبحت اليهودية قومية ودين لهذا الشعب.
  2. العودة الى أرض الميعاد يمكن ان تتم دون انتظار عودة الماشيّح المخلص وذلك للتمهيد والتحضير لهذه العودة. لقد تبدلت “متتالية الخلاص” من “نفي-انتطار-عودة الشعب” الى “نفي-عودة أعداد من اليهود للتمهيد لوصول الماشيّح-عودة الماشيّح مع بقية الشعب”(4-د).
  3. صاغ الحاخام ابراهام كوك (1856-1935)، الأب الروحي للصهيونية الدينية، تصوراً يقوم على اعتبار الصهيونية المادية (العلمانية) كالجسد، واليهودية الدينية كالروح، مما يفضي إلى الخلاص بواسطة الأيدي البشرية، وبتأييد إلهي من خلال إنشاء مملكة الله على الأرض كوسيلة لاستجلاب الماشيّح المخلص(7). بالتالي، ان الذين يعملون على الاستيطان (ولو كانوا كفار علمانيين) هم أداة للرب لتحقيق الخلاص وتقريب مجيء المخلص.  
  4. عهود التلمود الثلاثة لم تعد صالحة بعد الهولوكوست بسبب عدم تقيد المانيا النازية بالعهد الثالث (الذي تُقسم فيه الأمم ’ المُضيفة ‘على عدم اخضاعهم بشكل مفرط) وبذلك أُلغِيَ العهدين الأول والثاني (بان لا يعودوا الى ارض الميعاد كمجموعة وان لا يثوروا على الأمم المضيفة).

بعد الثورة الفرنسية (1789-1794) الكثير من اليهود في أوروبا الغربية والوسطى اندمجوا في المجتمع وسكنوا خارج الغيتو ولكنهم رغم ذلك لم يشعروا انهم مقبولين من البيئة الغير-يهودية واعتبروا أنه لا يمكن قبول اليهود كأعضاء كاملين في دولة غير يهودية، وبدلا من ذلك يجب عليهم تنمية هويتهم الخاصة وانشاء وطن قومي لهم (8). اليهود القوميون في أوروبا الشرقية الذي تنامي فيها الشعور العرقي الاثني في القرن الناسع عشر استغلوا المذابح ضد اليهود في 1881 فزادوا دعواتهم الى وطن خاص بهم لكي يكون لهم ’ شخصيتهم الثقافية والسياسية‘. هذه الأجواء، بالإضافة الى تماهي اهداف الامبريالية الغربية الاستعمارية لحل المسالة اليهودية والتخلص من اليهود في أوروبا وإقامة وطن قومي يهودي لهم في فلسطين، أدت الى تعاظم دور القومية اليهودية الممثلة بالحركة الصهيونية وسيطرتها على التوجه اليهودي العام في بداية القرن العشرين.

                                        يتبع

المصادر:

الحلقة الثانية

4) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – دكتور عبد الوهاب المسيري

4-أ       المجلد 5، الجزء 1، الباب 2: الإشكالية الحلولية اليهودية

4-ب       المجلد 5، الجزء 2، الباب 6: اليهودية الحاخامية (التلمودية)

4-ج       المجلد 5، الجزء 3، الباب 7: اليهودية المحافطة

4-د        المجلد 5: الجزء 3، الباب 6: اليهودية الأرثودكسية

5)       “What is Modern Day Israel” Yakov M. Rabkin

(6)      شبطاي تسفي – Sabbatai Zevi

(7)      الخلاص، الهيكل، وصعود الصهيونية الدينية

(8)      Origins and Evolution of Zionism – Foreign Policy Research Institute