جورج قرم: لا حياد في قضية فلسطين

غيّب الموت المفكر الدكتور جورج قرم (1940 – 2024)، وانتشر خبر وفاته سريعاً، فوسائل الإعلام والشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي تملأ الهواء والفضاء. وكما كانت سرعة انتشار الخبر، كان صدى رحيل قرم لاهباً بكلمات تأبين على ألسنة أصدقاء، ورفقاء رحلته الفكرية والدراسية، وبتدفقات من رصيد أفكار وردت في مؤلفاته، غيضها من فيض في شتى المجالات؛ في الدراسات الاقتصادية، والسياسية، والمالية، والإدارية، والفكرية، والسوسيولوجية  والتنموية، وفي التخلف، واستشراف المستقبل، بالتعمق في موروث الماضي، والبنى التاريخية المكونة له في الحضارات ونفيه لصراعاتها، مقدماً الحجج في وجه صراع حضارات هنتينغتون، والتي رآها برنامج عمل لتأجيج صراعات الطوائف والأقليات في منطقة الشرق الأوسط/منطقتنا، بصورة خاصة.

أمّا فلسطين وقضية شعبها وحقوقهم، فكانت من ثوابت ما كتب الراحل قرم، وما حمله من أفكار، وكرس لها قراءات شملت الديني والدنيوي، وأضفى عليها مغزى تأثيراتها في تطور المجتمعات، وتحدث عن الشق الاستعماري، مع تركيزه على الجانب الفلسفي للعنف الذي ميز مجتمعات الغرب، فكان كل من النازية والتطرف الأوروبي في حق اليهود شبيهاً بإبادة الهنود الحمر في أوجهها، وانعكس في عدم إدانة العنف الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، كما يحلل في كتابه بعنوان “أوروبا وأسطورة الغرب”.

درس قرم – عازف البيانو – العلوم السياسية والاقتصادية في باريس، وكذلك هو الرسام في الفنون التشكيلية، وحفيد أستاذ فن الرسم في تاريخ لبنان، داود قرم. وهو الأنيق، واللائق، والمتواضع عن سعة علم وإرث وثقافة ومخزون معرفة، وثلاث لغات، وكتب مترجمة للكثير من اللغات. كما أنه الإصلاحي المؤمن بإحقاق عدالة مجتمعية، والصادق في تحمُّل المسؤولية، سواء أفشلت أم العكس، ونادراً ما حمّل مسؤولية الفشل للآخرين، إلاّ في حالة قراءته للنظام الطائفي اللبناني، وإرث المحاصصة بين الطوائف، فكانت غصة في حلقه يوم غادر وزارة المالية (1998 – 2000) بعد عدة نجاحات بَصَمَت مهمته، لأن الإصلاح النقدي والمالي بمفهومه الأعمق طار في مهب تلك المحاصصات، وتغوّلها في مؤسسات الدولة. وقد أضاء على النزاهة قولاً وفعلاً.

وربما لا تتسع الكتابة لبدايات قرم أو أواخر إصداراته، وبينها سنوات عَبَقَت بطروحات جادل فيها، وتصدى لمجادليه حولها، لكن في الثوابت، لم يكن من فراق إلاّ مع أضداد أيدوا اغتيال حقوق الشعب الفلسطيني، ومثلهم من داعمي العولمة، والرأسمالية المتوحشة الناهبة لثروات الشعوب ولُقَيْمَات خبزهم، ومثلهم من معتنقي التخلف، والعتمة، والمهللين لقيود تمنع التطور الفكري، والاجتماعي، وحرية التعبير، والنقد.

وقد تحدث الدكتور جورج قرم في محاضرة نظمتها دائرة العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية في بيروت في تشرين أول/أكتوبر 2017 بعنوان “هل يمكن أن نكون معتدلين في شأن الدفاع عن فلسطين؟” إذ أسهب خلالها في الحديث قائلاً: “لا يمكن الاعتدال في هذا الشأن، وفي ظل الاستيطان الإسرائيلي المستمر في فلسطين.” (ازداد الاستيطان إلى اليوم أضعاف ما كان عليه سنة 2017) وأكد: “إمّا أن يكون هناك حق، وإمّا غير حق في هذا المجال.”

لم تغب فلسطين عن كتابات قرم، نظراً إلى تعدد انعكاس خطر المشروع الصهيوني في المنطقة ومستقبل أبنائها، بحسب رأيه. وفي إحدى أبحاثه القيّمة بعنوان “أهمية التاريخ الزمني الدنيوي لفلسطين لمكافحة الصهيونية” (منشور في “مجلة العربي” الكويتية، العدد 634)، رأى أن فلسطين تعرضت لاعتداء، وتحولت إلى مصب انفعالات عاطفية وأوروبية وأميركية في تأييد المشروع الصهيوني الغاصب، وهي انفعالات نشأت عن الصدمات الحضارية والثقافية الضخمة الناجمة عن هاتين القارتين المليئتين بالعنف المتواصل، شارحاً الأمر بأنه نتاج “أولى هذه الصدمات تلك التي نجمت عن غزو شمال القارة الأمريكية من قبل المتشدّدين الإنجليز البروتستانتيين الذين رأوا فيها ‘أرض ميعاد‘ جديدة، التي وعد الله بها، لذلك استحلّوا القضاء على السكان المحليين دون رادع نفسي أو أخلاقي… كما ينبغي ألاّ نندهش أن ذاكرة هذا التاريخ الدموي الممجّد تشجع المواطنين الأمريكيين على قبول أو حتى على تأييد المزيد من شتى أعمال العنف التي يمارسها المستعمرون الأوربيون اليهود في فلسطين تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد ‘القديمة‘.” أمّا الصدمة الثانية، فهي – في رأيه – كما ورد في هذا البحث القيّم “وليدة أعمال العنف المستمرة تقريباً، التي كان يمارسها [الأوروبيون] من مختلف الثقافات على مواطنيهم من الديانة اليهودية… وبالتالي، فإن الإبادة الجماعية ليهود [أوروبا] في ظل النازية لم تكن لتتم لولا وجود هذا الهوس من ‘المعاداة للسامية‘ في سائر الثقافات [الأوروبية]… وقد قامت الدول الأوروبية للتعويض عن عجزها في إزالة معاداة السامية… إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية بمبادرة إنشاء يوم دولي سنويّ مخصص لإحياء ذكرى ضحايا المحرقة، مبادرة تبنّتها عام 2005 الجمعية العامة للأمم المتحدة… ولذلك لايزال التكفير عن الإبادة الجماعية للطوائف اليهودية [الأوروبية] يتحقق من خلال الدعم المطلق للكيان الصهيوني وممارساته العنيفة ضد السكان الفلسطينيين وضد كل شعب يساندهم، مثل الشعب اللبناني.” (لو أنه واكب حرب الإبادة الإسرائيلية بحق أهالي قطاع غزة) وقد اختصر – أي قرم – في هذا البحث رؤيته لدور اللوبي الصهيوني في السياسة الأميركية قائلاً: “في الواقع، إن جماعات الضغط هذه لا يمكن أن تظهر بمثل هذه القوة إلاّ لأنها تعبّر عن حدّة الانفعالات العاطفية [الأوروبية] والأمريكية المتجذّرة بعمق في التاريخ المتميّز بعنفه لهاتين القارتين، والتي لخّصناها هنا بإيجاز. إن فعاليتها ليست سوى التعبير عن قوة إنكار الحقائق التاريخية البشعة التي تمارسها ثقافة الدول الأوربية وثقافة الولايات المتحدة الأمريكية.”

وتؤلمه وقائع اغتصاب حقوق الشعب الفلسطيني، ولطالما أعرب عن مشاعره، مبيّناً أساليب للمواجهة لأنها “لا تزال معركة طويلة”، مع تشديده على مواجهة ومقارعة هذا التزييف الصهيوني بدعم غربي لسردية اغتصاب هذه الحقوق. لكن المفكر العضوي قرم لمّح مراراً وجهراً إلى تقصير المثقف العربي في هذا الخوض، ورأى أنها مبالغة إذا ما قلنا بدور المثقف العربي، مبرراً ذلك بتصنيف وضعه لاعتماد معيار “من هو المثقف العربي؟”، فكان أنه من يضيف إلى معارف الأمة، وليس من يكتب مقالة لا طائل منها! إنها محاججة أثارت وستثير كثيراً من غبار النقاش، لكن قرم في توصيفه لا يخلو من حقائق، ومثلها في توصيفه دور وسائل ووسائط التواصل التي رآها تعدم التفكير المتوازن والرصين. إنها أمور ستبقى تثير النقاش والردود، ولا سيما أن هذه الوسائل والوسائط كان لها دورها الفعال في أواسط الغرب، وعلى الصعيد العالمي، بعيداً عن الإعلام التقليدي، في توسيع التضامن ضد حرب الإبادة الصهيونية القائمة في قطاع غزة، مزودة بفيديوهات الأشلاء واجتثاث عائلات بأكملها من القيود، وتدمير ممنهج لكل أشكال العمران.

كما أن مؤلفاته بحار من أفكار حرة كقائلها، أفكار لا تنضب من زيوت تمددها، ولا تتبخر منها نكهة الروح المتجددة من ذاتها بذاتها؛ فقد نبذ الطائفية باعتبارها محرك الشرور والاقتتال، وعاب على العقول المتحجرة بتقاليد بالية، فوصفها بكتل صنمية تعيق التطور والتفاعل مع الإبداع البشري، فكان يقول: “لا أطيق الفكر النمطي ولا أحتمله.”

ولكاتبة هذه السطور، وفي حوار مطول معه (منشور في 5/10/2008 في صحيفة “أوان” الكويتية) صال المفكر جورج قرم في مكتبه المزين باللوحات من ريشته ولسواه، وإلى جانب آلة البيانو المركونة لأوقات الشدة والعزف على مكنونات الغضب من الأوضاع الراكدة عربياً ومحلياً لبنانياً وعلى صعيد القضية الفلسطينية. وجال يومها في تشريح القضايا التي سألته عنها، وكأننا لا نزال نعيشها لأن الفكر الحر يبقى حياً بعد رحيل قائله. وأنتقي بعض ما جاء على لسانه لأهميته ولارتباطه بما نحن فيه؛ فعن المشهد الإسرائيلي قال: “إن قابلية إسرائيل، سواء اليوم أم أمس، للاستمرار في الحياة مرتبطة فقط بتأييد الدول الغربية، فلو لم يكن هذا التأييد موجوداً، لما وجدت دولة إسرائيل. وبعد ضربة سنة 2006، كان يمكن أن يكون الوضع أكثر سوءاً في إسرائيل. إن إسرائيل أصبحت جزءاً جوهرياً من المنظومة الفكرية السياسية الغربية، ولهذا السبب، هناك جزء كبير من العرب الذين لا يودون محاربة إسرائيل أو الدخول حتى في مواقف كلامية حادة ضدها، معتبرين ذلك عداء للغرب.” كما يبدي أسفه، قائلاً: “لأن المشكلة جوهرية، فإن هناك ميلاً فطرياً إلى الانقسام بين العرب.” 

لطالما شغل جورج قرم كيفية بناء استراتيجيات نهوض عربي، وبناء منظومات ثقافية/فكرية نابعة من الذات والقيم الحضارية الموجودة في تاريخنا ومجتمعاتنا، وكيف نقوم باستقلالية عن مستوردات قيم الغرب، وألاّ نبقى أسرى لتلك القيم، وأيضاً نكون منسلخين عن توترات الطروحات الطائفية والدينية التي تفكك ولا توحد، وتشرذم ولا تبني نسيجاً موضوعياً، وتخدم فكرة الصهيونية بتقسيم المجتمع العربي إلى دويلات متناحرة ومتقاتلة. فالفكر الصهيوني، الذي لطالما ركز على هذا الجانب، يزعجه النموذج اللبناني المتنوع بطوائفه، ومنه إلى المشرق العربي الغني بأعراقه وأقلياته المتعددة والثقافة المتنوعة. ففي كتابه “انفجار المشرق العربي” (عن دار الفارابي، 800 صفحة)، والذي استطال لمدة عقود ثلاثة كي يبصر النور بعد صدوره على مراحل تلتها إضافات، عرض فيه لتأميم قناة السويس، وأنصف دور الزعيم عبد الناصر، كما عرض لاجتياح إسرائيل للبنان سنة 1982، وتصفيتها الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري، إلى غزو أميركا للعراق، ثم عدوان إسرائيل على لبنان في تموز/يوليو 2006. لكن هذا المؤلف الضخم لم يكتفِ بالسرد التاريخي لهذه الأحداث، بل أيضاً هدف (من مقدمة الكتاب) إلى “استكشاف الخيوط الخفيّة التي تتحكّم بتصرفات كل من الدول الغربية الكبرى بمنظوماتها الفكرية والعلمية والأكاديمية، تجاه منطقتنا وكل من الأقطار العربية ونظم إدراكها ونمط تصرفاتها.” (ص 13)

إن تنبؤات جورج قرم كثيرة ومتعددة في استشرافه للوقائع، وننهي مقالتنا هذه بما كتبه في مقدمة كتابه “انفجار المشرق العربي” صيف 2006، وتحت القصف الإسرائيلي، وجاء فيها: “حين رأيت أن لا أحد تحرّك من العرب إزاء هذا الهجوم الوحشي على بيروت، عاصمة العرب الثقافية، بدا واضحاً لي أن المنطقة ذاهبة إلى مزيد من التشتُّت والتجزّؤ والانفجار، بل إنني اعتقدت أن الحرب الأهلية اللبنانية كانت تحضيراً أو بروفة لما نراه اليوم في أكثر من ساحة عربية”.. ملاحظة: تاريخ هذا التوقُّع يعود إلى سنة 2006.

 صحافية لبنانية.