أوائل المكتبات الأثرية في بلادنا

أوائل المكتبات الأثرية في بلادنا

   بعد عشر سنوات على اعتبار بيروت”عاصمة ثقافية للعالم العربي”، كما يترافق هذا الحدث مع اختيار القدس السورية “عاصمة ثقافية للعالم العربي” للعام نفسه، واعلانات الأونيسكو عن اعتبار الكويت وعمان ودمشق وبيت لحم عواصم ثقافية واعلامية بين سنتي 1999 و2024. إنّه النور الحضاري المشع دائما من مراكز أمتنا المضيئة معرفة وحقا وخيرا وجمالا على العالم بأسره.

   هذه الأحداث الثقافية المميزة ترتبط أصلا بالكتاب، خبز المعرفة الروحية، وهي تستوقفنا في محطات عدّة فيما خصّ المكتبات في بلادنا، وخصوصا الأوائل منها، نظرا لأهميتها التاريخية، ودورها الثقافي في حفظ التراث الذي يمثّل في بعض جوانبه ذاكرة الأمة.

   البداية من مكتبة الملك الأشوري باني بال السوري (1) أقدم مكتبة تاريخية، موجوداتها 2500 لوحة بالكتابة المسمارية (2)، وهي مرهونة اليوم في “المتحف البريطاني”، وأبرز موجوداتها “الخريطة السورية” (3) التي تمثّل الأرض محاطة بالمياه.

    في العام 1258م اجتاح هولاكو المغولي (4)، البربري، بلاد ما بين النهرين، ودمّر معالمها الحضارية، وأحرق مكتباتها، وألقى بكتبها في مياه نهر دجلة التي اصطبغت بــ “حبر” كتبها. وأعاد التاريخ نفسه مع “البوشين” (5) الأمريكانين، الأب والإبن، الإرهابيين اللذين حاصرا العراق واحتلت جيوشهما بلاد “أم الحضارات” ودمّرت مراكزها الحضارية ونهبت تراثها واغتالت أدمغتها وأتلفت كتبها، إنّها أميركا، أم الحقارة تغتال، أم الحضارة، وتمهّد الطريق أمام شذاذ الآفاق “الدواعش” (6) الذين أكملوا مهمة يهوه والبوشين ومن خلفهما في الإنتقام من منبع الفكر ومبعث النور ورائدة الحضارة الإنسانية.

 أليسار، إبنة صور، بانية قرطاجة وملكتها، أنشأت المكتبات العامة، في بلادها، وإليها كان يتقاطر الباحثون من بلاد حوض البحر السوري، خصوصا من اليونان لينهلوا معارفهم من تراثها، إلى أن أقدم القائد الروماني شيبيو ( 7 )، بعد انتصاره في الحرب على جيش قرطاجة على تدميّرها وحرقها وزرع أرضها بالملح حتى يقضي على عناصر الحياة فيها..إلا أنّ شيبيو تحلى بـ “الشرف المعرفي،” إذ أقدم على جمع كتبها، ووزّعها على حلفائه، واحتفظ لبلاده بموسوعة العالم القرطاجي “ماغون” (  8)  التي تقع في 28 جزءا، وقد أقرّ مجلس الشيوخ الروماني ترجمتها إلى اللغة اللاتينية ؟.

     وإذا كان شيبيو قد تحلى “بالشرف المعرفي” فإنّ عصابة النظام الفاسد في لبنان لم تميز بين الشرف والعار فأقدمت على، أثر الثورة الانقلابية عام 1962 على إتلاف مكتبة سعادة في دار الزعامة، واقتلعت عرزاله من جذوره، وزرعت ترابه ملحا لتمحو أثر الحياة ورمزيته حتى أخر الدهر ثم قطعت صنوبراته الست، وأحرقتها في ساحة ضهور الشوير. وفي ليلة ظلماء من ليالي الاقتتال الداخلي في السبعينات فجّر المجرمون “دار الزعامة”..متوهمين أنّهم في اغتيال الثالوث القومي الاجتماعي : جسد سعادة وعرزاله وداره يقضون على فكره ..لكنهم خسئوا، إذا رمى بهم الزمن في مزابل التاريخ، في حين غدا هذا الثالوث رمزا لعظمة أمّة منتصرة على الموت بالحياة كانت مكتبة الزعيم تحتوي على حوالي 1500 كتابا، إضافة إلى ثلاثين مجلدا، من بينها مجلدات جريدة “الزوبعة” (أصدرها الزعيم في الأرجنتين عام 1940)، ومجلة “المجلة” التي كان يصدرها والده  الدكتور خليل سعادة، في الأرجنتين ومن ثمّ في البرازيل والتي ظهرت على صفحاتها مقالات سعادة الأولى . إضافة إلى كتب أخرى متنوعة بلغات متعدّة، أهمها: الفرنسية والالمانية والانكليزية والاسبانية، اما الكتب الروسية فقد نجت من مجزرة الحقد لأنها كانت محفوظة في البرازيل.

وإلى شعبنا يعود الفضل في إقامة أول “مكتبة رسمية” تابعة للدولة في العالم العربي في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (9) والتي عرفت باسم “بيت الحكمة” (10) ومركزها في بغداد. وقد بدأ الرشيد في تأسيس نواة هذه المكتبة من الكتب ودفاتر العلم التي أورثه إياها والده الخليفة المهدي، مضيفا إليها ما نقله من أنقرة وبلاد الروم، وبعده قام ابنه الخليفة المأمون (11) بزيادة موجوداتها، وأضحت تضمّ كتبا بسبع لغات: العربية، اليونانية، السريانية، الفارسية، القبطية، الهندية والحبشية، كما أضحت مركزا للتأليف والدرس والترجمة والمطالعة، حتى غدت مكتبة “بيت الحكمة” في زمنه مركز الدولة العباسية الحضاري. وقد اهتمّ الرشيد وابنه المأمون بوضع التنظيمات الإدارية لهذه المكتبة ومنها على سبيل المثال: تعيين العالم يوحنا بن ما سوية (12) أمينا عاما للترجمة، وموظفا آخر أمينا عاما على المكتبة، مهمته المحافظة على موجوداتها ومشرفا على إدارتها وصيانة كنوزها. والجدير ذكره أنّ الهدف من إنشاء “بيت الحكمة”، لم يقتصر فقط على جمع الكتب وحفظها..، بل أنشئ فيها قسم للترجمة، وأماكن مخصّصة للعلماء يجلسون فيها لاملأ مؤلفاتهم على النسّاخ، بالاضافة إلى إنشاء أقسام أخرى للتجليد والنسخ والتقميش، مع قاعة مخصصة للمطالعة.  إلى جانب ذلك عرفت بغداد المكتبات المتخصصة نذكر منها: “خزانة الدار الخليفية” التي أسسها العباسيون في قصر الخلافة، تعظيما للعلم وتسهيلا للأبحاث العلمية.

 أول “مكتبة رسمية عامة” في العالم العربي هي مكتبة أبي نصر سابور بن أرد شير (13) المعروفة بــ “دار العلم”، التي أنشأها الوزير بهاء الدولة بن بويه الديلمي عام 991م ، في سوق الشعب في بغداد، حتى تكون موجوداتها في متناول عامة الشعب ، وقد ضمّت هذه المكتبة حوالي 15000 مجلدا، إضافة إلى مجموعة كبرى من كتب بلاد فارس والعراق، ويعتبر تنظيم هذه المكتبة وإدارتها والخدمات التي تقدمها لروادها نموذجا للمكتبة العامة بمفهومها العصري الحديث .

 وهل تعلم؟ أنّ “شارع المتنبي” الممتد في وسط بغداد، المعروف بــ “شارع المكتبات” وأهل الكتب، الذين تحدوا تتر واشنطن وسيوفها بالكتاب، والحرب بالحرف، والمخرز بالعين والحصار بالأشعار! شارع المتنبي ـ شارع المكتبات يتحوّل نهار الجمعة من كلّ أسبوع إلى مكتبة شعبية عامة، يبسط على أرضها وعلى أرصفتها وطرقها، وفي غرف فنادقها المهجورة جميع أنواع الكتب الفلسفية والعلمية والأدبية، إلى جانب القواميس وكتب التراث وعلم الإنسان وتعلّم اللغات والتعمّق في الديانات .والإقبال على شارع المكتبات يشهد ازدحاما ملحوظا، فأهل بغداد، وبالرغم من الحصار البربري، يعرضون مكتباتهم الخاصة للبيع بأسعار مخفّضة، والألم يمزق نفوسهم ، “فالعراقي امتاز بكثرة المطالعة واقتناء الكتب، وقد قيل : ” المصري يكتب، اللبناني ينشر والعراقي يقرأ”؟! .  

وأخيرا، وليس أخرا “المكتبة الأحمدية” في حلب العامرة بالمخطوطات النادرة والكتب المكدّسة لمختلف العلوم، سيما الرياضيات وغيرها، وأنواع التاريخ وشتى كتب الأدب، وفيها من المراجع ما يندر وجوده في أكبر مكاتب العالم، ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع الهجري (913-1010م).

بعد ما تقدم، ماذا نقدّم للعالم الذي اختار مدننا الحضارية، عواصم ثقافية، خصوصا بيروت “عاصمة عالمية للكتاب”؟

عود على بدء، إلى بيروت ــ أم الشرائع والأشرعة والمشرعين، إلى العاصمة التاريخية بامتياز، إلى المدينة المقاومة المنصورة، التي لقّنت العدوّ اليهودي درسا في معاني البطولة والعزّ، لن ينساه ويبقى في ذاكرته إلى بيروت أم الجامعات الوطنية والعربية والأجنبية، التي خرّجت وتخرّج للعالم القادة والأحرار والأعلام والعلماء والأبطال. إلى بيروت ست الدنيا بجهاته الست في العلم والمعرفة. إلى بيروت التي تحتضن المكتبات في حرم الجامعات، خصوصا مكتبتها الوطنية في الصنائع.

إنّ الأمة التي تريد أن تحيا في المستقبل عليها أن تلقح شعبها بلقاح حبّ المطالعة الهادفة وتضخّ في شرايينهم دماء المعرفة. وبعد أن عجز التطوّر الفوضوي الهائل في وسائل الإعلام والمعرفة عن مصادرة دور الكتاب الذي كان وسيبقى القوّة الروحية القادرة المتقدمة على شحن النفوس بالمعرفة التي هي قوّة المجتمعات وتقدمها ورقيها.

        الويل ثم الويل لأمة لا تقرأ … فالمجتمع معرفة والمعرفة قوّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *