في عام 1993 اقيمت السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاق المرحلي المعروف والذي عقد بين بعض قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وبين الحكومة (الإسرائيلية) التي كان يقودها حزب العمل صاحب الأغلبية البرلمانية ولم يرد في النص اي ذكر لدولة فلسطينية مستقلة او محدودة الاستقلال ،وانما حكم ذاتي محدود وضيق الصلاحيات يعتاش اقتصاديا على هبات مؤقتة تجود بها حكومات عربية وعالمية ثم على ما تشبه السلطة الفلسطينية من ضرائب من مواطنيها وما تشبيح حكومة الاحتلال من رسوم على المستوردات لمناطق السلطة الفلسطينية باعتبارها صاحبة السيادة على المعابر وتقوم السلطة الفلسطينية بدورها المرسوم والواضح بالاتفاق وهو إدارة السكان والحفاظ على امن طرفي الاتفاق الامر الذي تطلب التنسيق الامني بين أجهزة الامن الفلسطينية و(الإسرائيلية) وضرب اي توجهات جهادية في مناطق السلطة الفلسطينية.
وفي حين كان (الاسرائيلي) واضحا في النص والاداء على ان الاتفاق لا ينص على وجود دولة مهما كانت هزيلة وقد اتفق فيه مع الشريك الفلسطيني على تأجيل بحث المواضيع السيادية المهمة والمتعلقة بالحقوق الوطنية وهي حق عودة اللاجئين وتعويضهم ،كما نص على ذلك القرار الدولي ،وازالة المستوطنات المقامة على اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عاصمة الدولة الفلسطينية والحدود التي ستبقى تحت السيادة (الإسرائيلية) والمياه الجوفية التي هي (للإسرائيلي) الا بما يجود به على الفلسطينيين وليست لنا هذا في حين ذهب الفلسطيني الرسمي في تسويق رواية شعبوية مختلفة ،اذ قال ان ليس بالإمكان افضل مما كان وان هذا الاتفاق هو محطه قصيره في طريق الوصول الى دولة فلسطينية ناجزه الاستقلال وعاصمتها القدس.
المجموعة التي وقعت الاتفاق وهي حزب العمل (الاسرائيلي) انقرضت كأفراد وكحضور سياسي مؤثر وهي اليوم لم تعد تملك في الهيئة التشريعية (الإسرائيلية) الا ما يقارب عدد اصابع اليد ،في حين افترضت حكومات اليمين ،بألوانه المختلفة التي ورثت وتعاقبت على القيادة ،ان الاتفاق المرحلي المذكور ونتيجته المتمثلة بالسلطة الفلسطينية والوزارات والادارات الملحقة بها قد تجاوزها الزمن واصبحت الى لزوم ما لا يلزم ،وبالتالي فلا حاجة لدولة الاحتلال بها ،وعليها الرحيل كما رحل شركاءها في التوقيع على الاتفاق ولم يبق ما يهم دولة الاحتلال منها ،الا ما يتعلق بالتنسيق الامني.
كان يفترض بمن يريد تحويل هذا الاتفاق الهزيل الى مشروع دولة ان يعمل على بناء مؤسساتي باتجاه اقامة دولة، لكن الذي حصل هو تكرار لتجربة الفشل التي عاشتها الثورة الفلسطينية في الاردن قبل عام 1970 وفي لبنان حتى عام 1982 من ارتجال بالعمل السياسي وفساد بالعمل الاداري وعدم تحقيق الاهداف المعلنة للثورة. وكانت النتيجة الحتمية اننا كلما تقدم بنا الزمن كلما أصبحنا ابعد عن الدولة.
مارست حكومات اليمين المتعاقبة دورها في اضعاف السلطة وتقزيم دورها و مكانتها وكشفها امام جمهورها من جهة وامام الدول المانحة للمساعدات من جهة اخرى، ولكن الحكومة الحالية ومنذ تشكيلها قبل سنتين ضاعفت من هذا الدور وحرصت على ارهاق رام الله حينا ،في رفض تحويل اموال المقاصة مما ادى الى تعثر الحكومة الفلسطينية عن دفع رواتب الموظفين ،وحيناً اخر بالاجتياحات والاعتقالات والاغتيالات ومصادرة الارض و بناء المستوطنات، و تسليح المستوطنين و تحريضهم على التوحش في سلوكهم تجاه المواطن الفلسطيني، و في التغول على المسجد الأقصى وتدنيسه المستمر والذي اوصل او يكاد الى مرحلة تقسيمه مكانيا و زمانيا ما بين المسلمين و اليهود.
هذا في حين كانت السلطة الفلسطينية تصمت عن هذه الممارسات او تكتفي ببيانات تطالب المجتمع الدولي وجامعة الدول العربية و المؤتمر الاسلامي بتحمل مسؤولياتهم، فيما لا تقوم هي في تحمل مسؤولياتها تجاه شعبها وتبدي بالمقابل وفاءً عاليا في قيامها بمسؤولياتها التي رتبها عليها الاتفاق السيء الذكر، تجاه (الاسرائيليين) وصل الى حد القداسة، والاهم انها مع زعمها انها تعمل على تطوير الحكم الذاتي المحدود ليصل الى مرحلة الدولة وهو ما ذكر انفا، فقد بقيت اساليبها بعيدة عن العمل المؤسساتي المنظم المعتمد على الشفافية والنزاهة والبعيد عن الفساد.
أما بعد اندلاع الحرب فقد تباين موقف السلطة، ما بين القول ان لا علاقة لها بالأمر حسب ما ورد على لسان وزير الاعلام السابق، وما بين اتهام المقاومة بالانفراد بقرار الحرب (دون تذكر ان المجموعة المتنفذة كانت قد انفردت بقرار التفاوض ولم تستأذن او تستشير أحد من الشعب الفلسطيني) وتحميلها مسؤولية الجرائم التي يرتكبها الاحتلال من قتل ودمار وما بين الإدانة اللفظية الضعيفة لممارسات الاحتلال في حربه على غزة.
بعد 10 أشهر من الحرب يبدو ان قياده السلطة قد اصبحت تدرك ان عوامل عناصر بقائها قد تآكلت ولم يبق منها في القنديل الا قطرات زيت قليلة تجعل فتيله يتمايل أذناً بقرب الانطفاء، ولعل هذا ما يفسر الخطاب غير المسبوق للرئيس محمود عباس في انقرة الخميس الماضي والذي انتقل فيه الى خطاب النصر او الشهادة في ارض المعركة، وعن تخطيطه للذهاب الى غزة، طبعا دون الدخول في تفاصيل الرحلة وطريقها، هكذا انتقل مما بين المراوحة بين تحميل المقاومة المسؤولية وما بين الصمت. خطاب اعادنا التذكير بمرحلة المدً القومي في الخمسينات والستينات وما كان يحمله من حرارة.
ويطرح من استمع الى الخطاب السؤال: ما عدا مما بدا؟ وما سر هذه الصحوة بعد فوات الاوان و هل الحديث عن المعركة في الغزة التي بدأت في السابع من تشرين اول الماضي؟ ام ان هنالك معركة اخرى لا تستدعي الموت ولن تكون نتيجتها نصرا او شهادة، وهل هذا بسبب إدراك قيادة السلطة حول ما يتم التحضير له في عاجل الايام او هل هو خطاب الوداع؟
في الثاني من كانون الثاني عام 1492م غادر ابو عبد الله الصغير اخر ملوك غرناطة مدينته وسلم مفاتيحها للإسبان وبعد خروج قافلته التي تضم نساءه وجواريه وامواله، وقف على احدى التلال ونظر الى غرناطة نظرة اخيرة وتنفس عميقا ثم أكمل طريقه نحو المغرب ولا زالت تلك التلال التي وقف عليها ابو عبد الله الصغير تسمى زفرة(تنهيدة) العربي الأخيرة.
جنين- فلسطين المحتلة