جورج قرم: التبعية الاقتصادية والاستدانة

رحل منذ أيام المفكر اللبناني جورج قرم، الذي قدّم دراسات مهمة في حقول متداخلة بين الاقتصاد والمجتمعات وأيديولوجيا التخلف، وكان من المفكرين الأوائل الذين اشتغلوا على بنية التخلف ومخاطر انفجارها وتوظيفه طائفياً، وخاصة في كتابه المبكر (انفجار المشرق)، وقد اخترنا كتابه (التبعية الاقتصادية، مآزق الاستدانة في العالم الثالث الصادر عام 1980) لما يتضمنه من مؤشرات اقتصادية اجتماعية لما نحن فيه من تبعيات وتداعيات مختلفة، وهو الكتاب الذي سبق كتاب (اعترافات قاتل اقتصادي) الذي صار اليوم (أنجيلا) للباحثين عن سر الخراب في العالم الثالث ودور الاستدانة في ذلك.

يبرهن الكتاب على أن القروض الممنوحة إلى العالم الثالث تساهم في إرساء قواعد التبعية التكنولوجية، ويظهر العلاقة القائمة بين تعقيم الجهود الادخارية والتكنولوجية المحلية، واللجوء إلى القروض والمساعدات الأجنبية. فالأموال التي تقدمها الدول الغنية إلى الدول النامية هي أداة استغلال إضافية من بين أدوات مختلفة وهي مسؤولة إلى حد كبير عن شل الإمكانيات المحلية الذاتية في التنمية.

ويلفت الانتباه إلى أن هذا الطرح ليس جديداً، ولكن إضافته تكمن في تركيزه على دور (النخب) منذ القرن التاسع عشر، وفي إضاءته لدور البنك الدولي والعلاقة بين الاستدانة وتعميق التبعية، ويكشف أن هذا الكتاب قوبل بمقاومة من قبل معهد دولي يتولى دورات التدريب في شؤون التنمية.

الاستدانة الخارجية مصدر تحويل معاكس للموارد

الاستدانة الخارجية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمختلف مصادر النقل المعاكس للموارد من البلاد المستغلة باتجاه البلاد المصنعة. فإعادة الفوائد إلى مواطنها الأصلية والحاجة المستمرة لإعادة تمويل الديون، التي تفتقر غالبية بلدان العالم الثالث إلى القدرة الفعلية على تسديدها، يؤديان إلى زيادة تكاليف الاستدانة الخارجية. وتشكل هذه التكاليف نزيفاً معاكساً للموارد بالغ الأهمية بالنسبة للبلدان النامية، يذهب باتجاه البلدان المصنعة. وسوف نرى في الفوائد المدفوعة من قبل القطاع الخاص. ويضاف إلى هذا النزيف المعاكس:

  • هجرة أرباح الشركات المتعددة الجنسيات، الناتجة عن استثماراتها في العالم الثالث، إلى الوطن الأم.
  • المدفوعات لقاء براءات الاختراعات ورخص استعمالها.
  • المدفوعات لقاء الخدمات (إعانة تقنية، مكاتب استشارات وهندسة، تأمين، نقليات).
  • الأعباء الناتجة عن تضخيم الأسعار من قبل الجهات المصدرة، عند تصديرها، فيما يتعلق بالسلع التجهيزية أو السلع المنجزة.
  • الخسائر الناجمة عن الممارسات التجارية المقيدة التي تفرضها الشركات المتعددة الجنسيات.
  • الخسائر الناجمة عن التحويل المعاكس للتكنولوجيا، وتظهر بصورة هجرة الكوادر أو التقنيين نحو البلاد الغنية.
  •  شروط التبادل، التضخم، تدني قيمة العملة، وتأثيرها على أعباء خدمة الدين الخارجي.
  • الاستدانة كمصدر إضافي لعدم استقرار النظام النقدي العالمي.

الإشكالية الرئيسية

يبدأ قرم عمله بالتأكيد على أن النظرية التقليدية للتخلف، التي تكونت خلال الخمسينيات كانت لا تنفك عن اعتبار أن النقص في رأس المال هو من الأسباب الرئيسية في تخلف العالم الثالث. وعليه، فإن اللجوء إلى القروض والتوظيفات من الخارج كان يعتبر عنصراً سليماً في السياسة الاقتصادية لبلدان العالم الثالث.

وهو ما ترتب عليه:

1- التأثيرات الانحرافية الإمامية الناجمة عن الاستدانة، ومنها:

أ- تثبيط الجهود الرامية إلى تعبئة الادخار الكافي.

ب- تثبيط تحسن الإنتاجية المحلية.

2- التأثيرات الانحرافية الخلفية الناجمة عن الاستدانة، ومنها:

أ- الانحرافات في بنى الأسعار والمداخيل.

ب- الانحرافات في توزيع الاستثمارات.

الاستدانة مصدر إضافي للتبعية في العالم الثالث

إن اللجوء إلى الاستدانة يصبح نتيجة التقييدات والانحرافات التي يولدها في بنى الادخار والأسعار والاستثمارات، ونتيجة النقل المعاكس للموارد الذي ينميه، ظاهرة ذاتية التغذية ودائمة النمو، ليس للسياسة الاقتصادية للسلطات المحلية أي تأثير عليها. وفي مقابل ذلك فإن البلدان الدائنة تسعى جهدها لممارسة مراقبتها على الإدارة الاقتصادية للبلدان المدينة بواسطة منظماتها القومية للتسليف وبواسطة المنظمات الدولية حيث لها بصورة عامة تأثير غالب. وقد جرى مؤخراً تعزيز هذه المراقبة بإنشاء نظام أفضل لتبادل المعلومات وللتنسيق بين البنوك الدولية من جهة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير من جهة أخرى.

وقد ظهر من المفاوضات الجارية منذ عام 1976 حول اعادة تمويل الديون المستحقة في البلدان العاجزة عن التسديد (زائير، تركيا، بيرو)، إن البنوك الدولية لا تؤمن إقامة ديون جديدة قبل أن تقبل هذه البلدان بالبرنامج التصحيحي الذي يفرضه صندوق النقد الدولي.

ويستعرض قرم أكثر من حالة تؤكد أن الاستدانة كانت منذ بدايات الاستعمار القديمة وحتى الاستعمار الحديث، مكوناً أساسياً في استراتيجية التبعية.

وإذا كانت الإشكالية العامة هنا، هي ربط التخلف بنقص الرساميل، فهي في الحالات المذكورة إشكالية مركبة (نقص المال ونقص الحداثة والتحديث).

ومن ذلك: حالات: تركيا العثمانية، مصر، تونس