الاسباب الموجبة لتعديل دستور سعاده ووجهة هذا التعديل – الحلقة الخامسة: ضرورة الانتخابات العامة في الديمقراطية التعبيرية

هناك اعتقاد خاطئ سيطر في الحزب لوقت طويل بعد استشهاد سعاده وهو أن الانتخابات لا تتفق مع نظام الحزب ومع الديمقراطية التعبيرية، وقد عزّز هذا الاعتقاد ما قاله سعاده لحميد فرنجية: “وقد جعلت نظامه فردياً تسلسلياً…”. رأيي أن هذا الاعتقاد الخاطئ هو نتيجة عدم الانتباه أن مرحلة قيادة سعاده للحزب كانت مرحلة تأسيسية استثنائية، ونتيجة عدم الانتباه لما قاله سعاده لمنفذ عام سان باولو البرازيل بتاريخ 28-8-41 وهو:

“… إن امتياز الحكم الفردي في الدستور هو فقط لصاحب الرسالة ومؤسس القضية وليس نظاماً أساسياً دائماً، والاتجاه الديمقراطي في نظامه صريح لا يرفضه عقل صحيح”.

سنعرّي هنا هذا الاعتقاد الخاطئ وسنبرهن أن الانتخابات لا تتعارض أبداً مع الديمقراطية التعبيرية، بل هي أساسية وضرورية فيها.

لقد قلنا إن موضوع الديمقراطية التعبيرية هو تحديداً الإرادة العامة والتعبير عنها بدلاً من تمثيلها، وقلنا أن الإرادة العامة هي ما يريده الشعب كله، هي ما يجمع عليه، وهي نتيجة مصلحة عامة واحدة يسعى الجميع إليها. سنبيّن فيما يلي علاقة الارادة العامة بالانتخابات العامة.

أولاً: الإرادة العامة والانتخابات.

إن الإرادة العامة لا تظهر في الانتخابات، هي ليست ما تريده المجموعات التي تأتي لصناديق الاقتراع. هذه المجموعات ستبدي “إرادات” مختلفة ومتباينة وستقترع وتصوّت لأشخاص وبرامج مختلفة ومتباينة[1]، ولن تقترع ولن تصوّت لشخص واحد أو لبرنامج واحد عام يقبل به الجميع. إن القول بأن الانتخابات ينتج عنها ويظهر منها إرادة عامة، هو قول خاطئ، هو خطأ شائع. الانتخابات، في مجتمع متعدد الاتجاهات السياسية، ينتج عنها تمثيل سياسي وتبيِّن أحجام القوى السياسية المتعددة، ولكنها لا تعبِّر عن إرادة عامة واحدة.

إن التعبير عن الإرادة يأتي دوره بعد الانتخابات وليس خلالها. يأتي دوره عند ممارسة السلطة وليس عند إعلان نتائج الانتخابات. إن أصحاب السلطة هم الذين يعبّرون، أو لا يعبرون، عن الإرادة العامة من خلال ممارستهم للسلطة وقدرتهم، أو عدم قدرتهم، على تحقيق مصلحة الشعب الواحدة المولِّدة إرادة شعبية واحدة.  وفي ذلك يقول سعاده ما يلي:

“التعبير عن الإرادة العامة غرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد”[2]. هذا يعني أن التعبير عن الإرادة العامة لا يتولّاها المقترِعون، بل المقترَع لهم. هي من مهمة أهل السلطة وليس من مهمة من انتخبها. أصحاب السلطة هم الذين ينشئون ويدركون الشيء الجديد وليس من انتخبهم هو الذي يفعل ذلك.

“هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري الحديث أن يصلحه، تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”[3]

إن الأمم كلها تريد الخير والفلاح، ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة إذا لم تجد التعبير الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة للمطامح والمآرب التمثيلية“.[4]

هذا النص الأخير يشير بوضوح أن القيادة الصالحة هي التي تعبّر عن الإرادة العامة، تماماً كما أن الإنشاء وإدراك الشيء الجديد، أي الوصول الى الشيء الجديد، هو ما تتولاه القيادة المنتَخَبة وليس الهيئة الناخِبة. وأن القيادة هي التي من واجبها تفهّم إرادة الشعب، وهي التي تملك وسائل التنفيذ الموافقة”.

.

ثانياً: ضرورة الانتخابات في الديمقراطية التعبيرية

وإن الاعتقاد الخاطئ بأن الديمقراطية التعبيرية هي ضد الانتخابات هو ناتج أيضاً من الدمج بين معنيي الانتخابات والديمقراطية التمثيلية. لكن الحقيقة هي أن الانتخابات لا تعني دائماً ديمقراطية تمثيلية.

لإيضاح هذه المسألة يجب أن نميّز بين التمثيل السياسي من جهة وتمثيل الإرادة العامة من جهة أخرى.

1 – في التمثيل السياسي.

إن مجرّد الكلام عن التمثيل السياسي يعني أن في الهيئة الناخبة تعدد تكتلات سياسية تعمل لمصالح متعددة مختلفة خاصة بها، وفي أحسن الأحوال تعمل للمصلحة العامة، ولكنها تختلف فيما بينها في النظر للمصلحة العامة وكيفية العمل لها. وتبيّن حجم الاتجاهات السياسية في المجتمع، كل اتجاه سياسي يتمثّل في الدولة حسب حجمه الشعبي الذي تفرزه الانتخابات، بغض النظر إذا كانت هذه التكتلات السياسية تعمل للمصلحة العامة كما تراها، أو تعمل لمصالحها الفئوية التي غالباً ما تكون متعارضة مع المصلحة العامة..

2 – في تمثيل الإرادة العامة.

إن وجود إرادة عامة في المجتمع يعني حتماً وجود وعي وإدراك لمصلحة عامة واحدة، وهنا فقط يمكن الكلام عن تمثيل الإرادة العامة أو التعبير عنها.

وإن الانتخابات في هذه الحالة لا تعني تعبيراً عن الإرادة العامة إلّا عند حضور ووجود هذه المؤهلات في المرشحين لخوضها فيستطيعون التعبير عن الإرادة العامة، أي تنفيذها وتحقيق المصلحة العامة المولِّدة لها.

مهما يكن من أمر، فالديمقراطية التمثيلية التي يعارضها سعاده هي ديمقراطية “تمثيل الإرادة العامة” عندما تكون هذه الإرادة موجودة وظاهرة في المجتمع وليس ديمقراطية التمثيل السياسي، أي ليست ديمقراطية تمثيل الواقع السياسي الذي يريد تغييره.

يمكن تلخيص الفكرة كالتالي:

1 – وجود إرادة عامة في المجتمع نتيجة وعيه للمصلحة العامة: الانتخابات تعني ديمقراطية تمثيلية عند غياب شرط الأهلية لدى المرشحين، والانتخابات تعني ديمقراطية تعبيرية عند وجود شرط الأهلية لدى المرشحين.

2 – عدم وجود إرادة عامة في المجتمع نتيجة عدم وعي مصلحة عامة: الانتخابات تعني ديمقراطية تمثيلية بغض النظر عن وجود أو عدم وجود شرط للأهلية لدى المرشحين.

إن الديمقراطية التعبيرية تفترض وجود إرادة عامة واحدة في المجتمع

النتيجة فيما يخص الحزب هي التالية

الانتخابات العامة في الحزب ليست بأي شكل من الأشكال لا من أجل تمثيل الإرادة العامة ولا من أجل تمثيل الواقع السياسي الذي نسمّيه “التمثيل السياسي”، وإليك السبب:

الانتخابات العامة في الحزب ليست من أجل تمثيل الإرادة العامة لسبب رئيسي هو وجود “شرط الأهلية” في المرشحين فيستطيعون التعبير عن الإرادة العامة، ولا يكتفون بتمثيلها تمثيلاً فقط.

والانتخابات العامة في الحزب ليست من أجل التمثيل السياسي لسبب رئيسي هو أن مجموع الحزب ليس فيه فئات ومذاهب سياسية مختلفة تعمل لمصالح مختلفة، لتمثيلها في قيادته، بل يُفترض بالحزب أن يشكل مجتمعاً حراً متضامناً يعمل بنظام واحد لمصلحة واحدة ممثلة في غاية الحزب، وبالتالي لديه إرادة عامة واحدة هي تحديداً إرادة تحقيق وتنفيذ مبادئ الحزب وغايته.

الفائزون في الانتخابات الحزبية العامة لا يمثلون فئة انتخبتهم. الفائزون هم بكل بساطة قد حازوا على تأييد وثقة أكثر من التأييد والثقة التي حاز ليها الخاسرون، وهم فازوا ليعبِّروا عن الإرادة العامة الواحدة تحقيقاً للمصلحة العامة الواحدة وليس ليمثلوا الفئة التي انتخبتهم أو يمثلوا مصلحتها.

  الانتخابات في الحزب هي لأغراض أخرى هي                                                                                                                                                 

 – الانتخابات ضرورية لاختيار عدد صغير من بين عدد كبير من المؤهلين، وسعادة مارسها في الحزب على مستويات عديدة، وكل الحجج التي يسوقها بعض الرفقاء لرفض الانتخابات العامة التي يشترك فيها القوميون الاجتماعيون جميعهم، هي حجج غير صحيحة.[5]

2 – الانتخابات في الحزب هي لتقرير من هو الأكثر قبولاً وتأييداً من مجموع الحزب عملاً بمبدأ الديمقراطية، إنها لمعرفة مَن من المرشحين يحظى بثقة أكبر لدى مجموع الحزب تمشّياً مع المبدأ الديمقراطي الذي تقوم عليه القومية.

3 – الانتخابات في الحزب ليست لتقرير الحق والباطل ولا علاقة لها بالحق والباطل، فالحق ليس عددياً، لا الكثرة ولا القلة تقرر الحق.  الاثنان على حق طالما أنهما كلاهما أمين مؤهل صالح لممارسة السلطة وقد تم قبول ترشيحه، لكن الديمقراطية تقتضي أن تُعطى السلطة للأكثر قبولاً وتأييداً من مجموع الحزب.

4 – الأمناء لا يحق لهم ولا يجوز لهم الانتخاب نيابة عن القوميين. فالأمناء هم رجال السلطة ونساؤها وليسوا مصدرها، والفرق كبير بين السلطة ومصدر السلطة. الأمناء هم للتعبير عن الإرادة العامة لكن التعبير عن الإرادة العامة معناه تحقيق هذه الإرادة من موقع السلطة وليس معناه التعبير عن آراء واختيارات الرفقاء المتعددة والمختلفة في الانتخابات.

القول إن الأمناء يعبرون عن القوميين عندما ينتخبون عنهم هو قول خاطئ. القوميون لا يحتاجون لمَن يعبِّر عنهم، فكل قومي يستطيع التعبير عن نفسه، بل يحتاجون لمَن يعبِّر عن إرادتهم العامة. والأمناء يعبرون عن الإرادة العامة للقوميين التي يمكن تلخيصها في تحقيق مبادئ الحزب وغايته.

5 – الأمناء هم ليُنتَخَبوا وحدهم (بفتح الخاء)، وليس ليَنتخِبوا وحدهم (بكسر الخاء). إن نظامنا هو نظام ديموقراطي وليس نظاماً أرستوقراطيا.

الأرستوقراطية هي حكم الأقلية المفضّلة، عائلة، أو سلالة، أو طبقة، أوغيرها، و هي أقلية مغلقة تكون هي السلطة وهي مصدر السلطة بنفس الوقت. أمّا نظامنا القومي الاجتماعي الجديد فصحيح أن أقلية الأمناء هي التي تتولّى السلطة، ولكنها ليست هي مصدر السلطة. إن مصدر السلطة في جميع الأنظمة الديمقراطية، ومنها نظامنا، هو الشعب كله. هذا فضلاً عن أن الأمناء ليسوا أقلية مغلقة، بل مفتوحة ومتاحة لجميع الرفقاء عندما تتوفر فيهم شروطها.

كانت هذه مفاهيم عامة وقواعد يقوم عيها نظام الحزب الذي هو نظام جديد و“ستمشي البشرية بموجبه في المستقبل”.

إن هاجس الوصول الى قيادات تتمتع بالإدراك العالي وبكل الصفات الممتازة التي وضعها سعاده كشروط لنيل رتبة الأمانة، لا يجب أن يذهب بنا الى وضع كل شيء بسلّة الأمناء. –  نعلم أن هذه الفكرة قد كررناها أكثر من مرة، تكرارنا هو للتأكيد على فساد الفكرة التي تضع كل شيء في سلّة الأمناء على اعتبار أنهم “أدرى وأعلم”. صحيح أن الأمناء هم مؤهلون أكثر من غيرهم لمعرفة حاجات المرحلة السياسية وحاجة الحزب لقيادة مناسبة لتلبية تلك الحاجات. لذلك فالأمناء يمكنهم الاجتماع، والتداول في الوضع السياسي القومي وحاجاته وكيفية التعاطي معه ومع الأهداف القريبة والبعيدة لعمل الحزب وسياسته، ولا شيء يمنعهم من ذلك أبداً. ويمكنهم أيضاً، بنتيجة مداولاتهم، أن يتوافقوا على عدد معين من بينهم يكون مؤهلاً ومستعداً لقيادة المرحلة، ولكن لا يمكنهم تجاوز المبدأ الديمقراطي وإنكار حق القوميين الاجتماعيين بأن يكونوا كلهم مصدراً للسلطة. لكن في جميع الأحوال يجب إجراء انتخابات عامة لاختيار من سيكونون أعضاء المجلس الأعلى.

لذلك كله، يجب أن ينصّ الدستور المُقترَح على أن المجلس الأعلى يتكوّن من الأمناء بواسطة انتخابات عامة يشترك فيها جميع أعضاء الحزب في مديرياتهم.

إن التعديلات الدستورية الواجب إجراؤها يجب أن تلتزم هذه القواعد والمفاهيم ولا تحيد عنها أبداً. يجب أن تلتزم العقيدة “والنظام الجديد” ودستور سعاده الأصلي وقواعده وفلسفته.


[1]   نحن نتكلم هنا عن الانتخابات بشكل عام خارج الحزب وليس داخله، ذلك لأن الحزب هو “مجتمع حرّ متضامن” له قضية واحدة وغاية واحدة وإرادة عامة واحدة هي تحديداً إرادة تحقيق غايته، وليس مجتمعاً متعدد الإتجاهات السياسية. فالإتنخابات في الحزب ليست للتمثيل السياسي.

[2]   نفس المصدر، نفس الصفحة.

[3]   نفس المصدر، نفس الصفحة.

[4]   نفس المصدر، نفس الصفحة.

[5]   كتابنا: “دراسات ومقالات في الفلسفة القومية الاجتماعية- الجزء الأول”، ص 101- 195.