التجريف السياسي للشرق الأوسط

التجريف السياسي للشرق الأوسط

التجريف السياسي، هو الإطار العام للاستراتيجية الأمريكية منذ إسقاط جدار برلين وتصدع النظام السوفياتي في حقبة الجيل البيروقراطي من هذه التجربة.

وقد ارتكزت هذه الاستراتيجية على مجموعة من العوامل والاعتبارات والحيثيات المتداخلة فيما يشبه منظومة من السرديات والسياسات في كل الحقول، السياسية والاقتصادية والإيديولوجية والعسكرية والاستخباراتية، وكان من أبرزها على وجه العموم:

  • مجتمع سياسي عالمي واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية مقابل مجتمعات مدنية متناثرة لا تملك من أمرها شيئاً في مجالات السياسة الخارجية والدفاع والتخطيط والخطوط العامة للاقتصاد والثقافة (النفعية) البراغماتية.
  • فكرة فوكو ياما عن نهاية التاريخ على عتبات مدرسة شيكاغو الليبرالية وفلسفة السوق المتوحشة.
  • فكرة شتراوس، المتاجرة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والضغط بها في الشرق الأوسط وغيره، وإدارة ثورات ملونة باسمها شرط أن تنسجم نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع مع السياسات الأمريكية، فإذا خالفتها اللجوء إلى خيار تشيلي (بينوشت).
  • السردية الليبرالية المزعومة المعروفة التي تنطلق من تقسيم جغرافي-بيولوجي ثابت للعالم، شمال متفوق (متحضر) وجنوب وشرق يحتاجان إلى الترويض أو الإبادة.

أما فيما يخص الشرق الأوسط، يشار ابتداءً إلى الإحالات التاريخية ومصادرها النظرية والسياسية، النظرية من نمط سوروس (العقل المدني) للمجتمع المفتوح واللاحقيقة، الثورات البرتقالية، ومن نمط العقل الاجتماعي التاريخي، برنار لويس، والعقل السياسي بريجنسكي.

كما يشار إلى المعاهد والمراكز والصناديق وأمثالها من الأدوات المالية والتنفيذية التي تعتبر امتداداً لمناخات الاستشراق الاستعماري (صندوق اكتشاف فلسطين) وبينها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى والذي يخضع للسيطرة الصهيونية، ومعهد هرتز ليا الصهيوني في فلسطين المحتلة، ومن هذه الإحالات والمختبرات خرجت الاستراتيجيات الأمريكية-الصهيونية فيما يخص الشرق الأوسط وكان من أبرز تعبيراتها:

  • استكمالاً لسايكس-بيكو، (تفكيك الهلال الخصيب، سوريا التاريخية والعراق، إلى كيانات وهويات قاتلة مذهبية وطائفية)، تفكيك الكيانات الجديدة إلى كانتونات طائفية متناحرة تشكل محيطاً تابعاً للمركز (الإسرائيلي) تحت عنوان الإبراهيمية السياسية، ولقد كان ربيع الفوضى (الربيع العربي) وأدواته المتناقضة (ليبراليون مزعومون، وقوى تكفيرية) هو الأداة الأساسية التي استخدمتها واشنطن لهذه الغاية.
  • في ضوء تجربة العراق وليبيا وعدم السيطرة على الفوضى فيهما، اللجوء إلى تكتيك جديد، الدولة الضعيفة النظام القوي، أي إضعاف الدولة (وليس تهديمها) وتقوية النظام (منظومة السيطرة بالقوة والإعلام) ويترتب على ذلك تحطيم الطبقة الوسطى وتوسيع خط الفقر وإشاعة الجوع والبطالة والحط من الكرامة الإنسانية والوطنية.

ويلحظ هنا أن معادلة (الدولة الضعيفة – النظام القوي) هي امتداد لتجربة سابقة عرفت بالسلطة الشرطية-الجابية، قبل أن تتراجع قليلاً أمام الثورات الاجتماعية الكبرى في روسيا والصين وأمام الجرعة الرومانسية لدولة الحق الهيغلية أثر تصدع الموجات الرأسمالية الكلاسيكية الأولى.

وكان مفهوماً ومتوقعاً أن تعود السلطة الشرطية-الجابية بعد تراجع الإيقاع التاريخي للثورات العمالية وانفراد دولة مدرسة شيكاغو، الإمبريالية الأمريكية بالعالم.

  • ترجمة ما سبق في أشكال كرتونية من العمل النقابي باسم المهنة وفصلها عن القضايا العامة، ومن العمل الثقافي والأكاديمي المتأفف من السياسة والقضايا الوطنية، والأخطر تفريغ القوى الحزبية من مضامينها السياسية والإيديولوجية، بل شيطنة العمل السياسي وتصوير العقائد والخلاف حولها كأيديولوجيات عصبية أو يوتوبيا غير واقعية.

وعلى هذا الصعيد، يمكن ملاحظة التشويش والخلط المبرمج للمفاهيم والتناقضات والأولويات، والذي تشارك فيه أقلام الاستخبارات الأطلسية وبعض الأوساط المنسوبة إلى تيارات ليبرالية مزعومة أو (مدارس) من نمط ما ورد في كتاب ساندرز (من يدفع للزمار) والحرب على الجبهة الثقافية.

وسواء كان هذا التشويش مبرمجاً أو ناجماً عن اضطراب ثقافي، فقد كان جزءاً من الحرب المذكورة وفق ما يشبه الاعترافات عند كوستلر في كتابه (الدعارة الأكاديمية)، وبعض المنشقين الروس أمثال الروائي باسترناك.

التجريف السياسي وتداعيات غزة ومسانديها

إلى ما قبل طوفان الأقصى وملحمة غزة وقوى المحور حولها، اعتقدت واشنطن وبقية المتروبولات الرأسمالية، أن الشرق الأوسط بات قاب قوسين أو أدنى من السقوط النهائي تحت السيطرة الصهيونية بقناع الإبراهيمية السياسية، وبالتالي ضخ الدم من جديد في الشرايين الإمبريالية المأزومة في أوراسيا وبحر الصين، وكان التجريف السياسي وتحويل المنطقة إلى مكعبات وجزر ومعازل بشرية وكانتونات طائفية هو العنوان المنشود لهذه السيناريوهات، بيد أن طوفان الأقصى وقوى المقاومة المساندة، سرعان ما تحول من اشتباك ميداني وملحمة عسكرية مرّغت أنف العسكرية الصهيونية بالتراب فعلاً، إلى ظاهرة تاريخية هزّت العالم الرأسمالي وأركانه وسردياته.

ولم يعد الشرق الأوسط مجرد بريد أو مختبر دموي أو ساحة للتجاذبات والصفقات ولعبة المقصات والخرائط والهويات العابرة، والأهم لم يعد جغرافيا لسكان مفرغين من حقوقهم السياسية والتاريخية. فما أن تحول هذا الشرق في ضوء حرائق غزة ومسانديها من جغرافيا إلى قلب جديد للعالم، حتى استعادت المفاهيم روحها ومعانيها ودلالاتها، وفي المقدمة منها الحقل السياسي الوطني وما يختصره ويعبر عنه في غمرة أكاذيب التحول الديموقراطي والعدمية والبراغماتية والنفعية والليبرالية المزعومة والاحتقانات الطائفية والجهوية.

ولعل الأهم في هذه النقطة بالذات، استعادة روح حركة التحرر الوطني وبرنامجها السياسي الذي تم اعتراضه سابقاً وقطع الطريق عليه ببدائل مشبوهة، من تهميش العمل السياسي نفسه باسم المهنة والبراغماتية إلى النفخ في الحالة الديمقراطية المنشودة باسم التحول الديموقراطي والثورات الملونة بمعزل عن القضايا الوطنية والتحديات الخارجية مع العدو الصهيوني.