الديمقراطية التعبيرية ومعناها
إن مقولة الديمقراطية التعبيرية قد التبس معناها على كثيرين فتعددت التأويلات واختلفت وحصل غموض كبير والتباس كثير كان يجب تلافيه لو أخذت هذه المقولة حقها من الدرس والبحث المتأني.
لا شك أبداً أن لنا مع سعاده نظرة جديدة للديمقراطية، حتى أن نظرتنا يقول عنها سعاده أنها تشكل انقلابا جديداً تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية. وفي هذا المجال لا بأس أن نكرر قول سعاده التالي:
“إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحولت الى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب أخذ يئن من شلل الاشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلابا جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة الى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة الذي هو شكل ظاهري جامد. فالتفكير السوري القومي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة أسمها التعبير عن إرادة الشعب، فهذه الفكرة الجديدة هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه فيما بعد”.
هذا ما أعلنه سعاده في خطاب سانتياغو سنة 1940، أمّا سنة 1947، أي بعد سبع سنوات، عاد وذكر عبارة “الديمقراطية التعبيرية” كاسم للديموقراطية الجديدة، وذلك في مقالة “نسر الزعامة ووحول تكومان- 2″، قال:
“في سنة 1940 زار الزعيم مدينة سانتياغو لدعوة المواطنين الى النهضة القومية، وصحبه في هذه الرحلة جبران مسوح. فألقى الزعيم محاضرة اشتملت على نظرية من أروع النظريات الاجتماعية السياسية ويصح أن تسمّى هذه النظرية نظرية الديموقراطية التعبيرية، خلافاً للديموقراطية التمثيلية الشائعة في العالم”.
إنه “الانقلاب الجديد الذي تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية”.
ولا بأس أن نلخِّص هنا بإيجاز شديد معنى الصفة التعبيرية للديمقراطية وعلاقتها بمسألة المؤهلات، وبالتالي الفرق بين الديمقراطية التعبيرية الجديدة والديمقراطية التمثيلية القديمة.
1- الفرق بين التعبير عن الإرادة العامة من جهة، وتمثيل الإرادة العامة من جهة أخرى، قد شرحه سعاده وأوضحه بنفسه ولا مجال للاجتهاد في هذا الأمر وتأويله وإعطائه معنى مغايراً للمعنى الذي أعطاه سعاده، وهو المعنى الوارد في هذه الجملة القصيرة التالية المكتنزة المعاني والسهلة الفهم:
“التمثيل أهون من التعبير، لأن التمثيل شيء جامد يتعلق بما قد حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد. هذا هو الخلل الاجتماعي الذي يريد التفكير السوري أن يصلحه: تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”.
علماً ان موضوع التمثيل والتعبير الذي كان يتكلم عنه هو تحديداً وحصراً: الإرادة العامة.
إن فكرة الجمود التي في تمثيل الإرادة العامة هي بالضبط ما رفضه سعاده، وفكرة الإنشاء والوصول الى الشيء الجديد هي بالضبط ما أراده. “إن الشعب أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة القومية الاجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيل الإرادة العامة، الذي هو شكل ظاهري جامد”.
إن تمثيل الإرادة العامة هو إذاً أهون من التعبير عنها. ذلك لأن مجرّد تمثيلها يعني إظهارها ونقلها وشرحها، أي إعطاء صورة عنها، مثلها، كما هي، دون الوصول على تنفيذها وتحقيق المصلحة التي كانت وراؤها والدافع اليها، لذلك هو شيء جامد يتعلق بما حصل دون القدرة على تغيير ما هو حاصل ودون القدرة على الإنشاء والوصول الى شيء جديد. إن النقص والعيب والخلل في تمثيل الإرادة العامة هو إذاً في نقص القدرة لدى الممثلين على تنفيذ الإرادة العامة للشعب، ونقص القدرة هذا سببه غياب المؤهلات لديهم. وهذه المؤهلات لو توفرت فيهم كانت لتمكّنهم من كسر الجمود ومن تنفيذ الإرادة العامة وتحقيق المصلحة التي هي وراء هذه الإرادة، أي تمكنهم من “تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”، حسب تعبير سعاده.
هذا هو بالضبط معنى “تمثيل الإرادة العامة” الذي وصفه سعاده بالجمود، والذي أراد إبداله بالتعبير عن الإرادة العامة الذي وصفه بأنه يعطيها وسائل التنفيذ الموافقة. ولا يصحّ أبداً الاستطراد أكثر والذهاب الى معاني أخرى للتمثيل وللتعبير خارج موضوع الإرادة العامة. فالجمود والشلل هو سمة تمثيل الإرادة العامة، والتنفيذ والإنشاء هو سمة التعبير عن الإرادة العامة.
2 – التعبير عن الإرادة العامة هو، إذاً، تنفيذها وتحقيق مصلحتها، هو كسر الجمود وإدراك شيء جديد بفضل تمتع مَن هم في السلطة بالمؤهلات التي تمكنهم من ذلك. وهذا المعنى للتعبير عن الإرادة العامة قد أوضحه سعاده وكرره أكثر من مرة واحدة. ورغم ذلك نقرأ للبعض ونسمع منهم تفسيرات غريبة ومعقّدة وغير مطابقة للمعنى الذي أوضحه سعاده. فبالإضافة لقوله الآنف الذكر، أي “تفهّم إرادة الشعب وإعطاؤها وسائل التنفيذ الموافقة”، فقد أسهب في شرح ذلك في “نشوء الأمم” لأن الموضوع هو موضوع علمي يتعلق بالمصلحة والإرادة ومعناهما، وكيف أن الإرادة هي لتحقيق وتأمين مصلحة. يقول في الفصل السابع ما يلي:
“المصلحة والإرادة هما قطبا المجتمع فواحدهما سلبي وهو المصلحة والآخر إيجابي وهو الإرادة. فالمصلحة هي التي تقرر العلاقات جميعها والإرادة هي التي تحققها”. “وبديهي أنه لا إرادة حيث لا مصلحة، فحين يجوع الإنسان يريد أن يأكل وحين يعطش يريد أن يشرب وحين يشتاق يريد أن يحب. فالمصلحة هي طلب حصول ارتياح النفس وتحقيق ارتياح النفس هو غرض الإرادة”.
ولفهم أهمية التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيلها يجب أن نلاحط أن الديمقراطيات التمثيلية الشائعة في العالم اليوم لا تطلب من أصحاب السلطة السياسية التشريعية في الدولة، ليصيروا أصحاب سلطة، غير الحصول على العدد الأكبر من أصوات المقترعين في الانتخابات العامة. الديمقراطية التمثيلية لا تطلب مؤهلات، بل أصوات. هذا رغم أن المؤهلات هي ضرورية ومطلوبة من جميع العاملين في جميع مصالح الحياة الاجتماعية والاقتصادية المدنية، فكم بالحري من العاملين في سياسة الدولة حيث المؤهلات هي أكثر وجوباً ولزوماً!! رغم ذلك فتوفر المؤهلات لم يكن شرطاً للوصول الى السلطة في الديمقراطية التمثيلية، وهذا بالضبط ما دفع سعاده الى نقدها وتقديم البديل عنها. إن جديد سعاده والبديل عنده هو إدخال شرط الأهلية للعاملين في سياسة الدولة، بعد أن كان للعاملين في مصالح المجتمع فقط.
في الديمقراطية التمثيلية التي لا تطلب مؤهلات، بل أصوات، يمثل أصحاب السلطة مجتمعهم تمثيلاً، وبسبب غياب المؤهلات يكون تمثيلهم “شيء جامد” غير قادر على تنفيذ الإرادة العامة وتحقيق المصلحة العامة للشعب. أمّا في الديمقراطية التعبيرية التي تطلب مؤهلات، الى جانب الأصوات، يكون أصحاب السلطة يعبرون عن الإرادة العامة، أي يملكون القدرة على تنفيذ هذه الإرادة (إعطائها وسائل التنفيذ الموافقة) وتحقيق المصلحة الدافعة لها، وذلك بفضل ما يتمتعون به من مؤهلات.
3 – إن الموضوع الرئيس، والوحيد، للديمقراطية التعبيرية هو الإرادة العامة، وليس غيرها. الإرادة العامة والتعبير عنها بدلاً من تمثيلها هي التي تشكل الفكرة الجديدة لسعادة، وليس التعبير أو التمثيل بشكل مطلق. التعبير عن الإرادة العامة يختلف كثيراً عن التعيير عن الرأي العام (أو الخاص). التعبير عن الإرادة هو غير التعبير عن الرأي. التعبير عن الإرادة يحمل معنى التنفيذ والتحقيق أمّا التعبير عن الرأي فيحمل معنى الشرح والتفسير فقط فيجب الانتباه الى هذا الفرق الكبير.
كما أن سعاده ليس ضد التمثيل بمعنى الإنابة مثلاً، ليس ضد التمثيل بالمعنى العادي الذي نراه في جميع شؤون الحياة، بل هو ضد تمثيل الإرادة العامة تحديداً وحصراً، ويدعو للتعبير عنها بدل تمثيلها. ولا يجوز الذهاب بعيداً وإزالة كلمة التمثيل وحذف معناها من اللغة بحجة أننا ندعو الى التعبير عن الإرادة العامة بدلاً من تمثيلها.
فسعادة، مثلاً، ليس ضد تمثيل سورية في المنظمات الدولية، بل معه، وليس ضد تمثيل الحزب في مؤتمر للأحزاب السورية أو العربية، بل معه، وهو ليس ضد تمثيل مركز الحزب في احتفال منفذيه حلب بل معه، كما انه ليس ضد تمثيل المديريات في مجلس المنفذية بل معه. لكن كل هذا التمثيل في كل هذه المواضيع، وغيرها، هو تمثيل بمعنى الإنابة أي إرسال مندوبين ينوبون عن مؤسساتهم فقط، يمثلونها، يتكلمون باسمها، وليس بمعنى “تمثيل الإرادة العامة” للشعب كله.
4 – التمثيل السياسي:
وسعادة أيضاً ليس ضد التمثيل السياسي، ليس ضد وجود الأحزاب والبرامج والاتجاهات والمذاهب السياسية في المجتمع، وليس ضد تمثيلها في الدولة. ذلك لأن سعاده ليس مع القمع، بل مع الحرية التي تعني صراع العقائد والأفكار. كيف نخوض صراع العقائد إذا لم نكن نعترف بوجود هذه العقائد وحقها في الإعلان عن نفسها! إن تمثيل الإرادة العامة الذي أراد سعاده إبداله والانقلاب عليه هو غير التمثيل السياسي ويختلف عنه كثيراً.
سعاده هو ضد الاكتفاء بتمثيل الإرادة العامة دون القدرة على تنفيذها، لأن هذا التمثيل يحمل علّة الجمود وليس له القدرة على تحقيق المصلحة العامة التي كانت الدافع إليها. وسعادة هو مع التعبير عن الإرادة العامة بمعنى تنفيذها الذي يتولّاه مؤهلون قادرون على ذلك بفضل ما يتمتعون به من مؤهلات. هذا هو التعبير بدلاً من التمثيل الذي تكلم عليه سعاده، ولا يجوز إطلاق الموضوع والذهاب به الى قضايا أخرى مثل قضية التمثيل السياسي. يجب الانتباه الى القضية الأساس في مسألة التعبير بدلاً من التمثيل، إنها قضية “الإرادة العامة” لا غيرها. أمّا التمثيل السياسي فهو تمثيل إرادات خاصّة وليست عامة، أي إرادات فئوية وجزئية خاصّة بأحزاب سياسية معينة، إنه لإظهار الاتجاهات السياسية في المجتمع وقياسها ومعرفة حجمها، وهذه المعرفة هي مطلوبة من أجل معركة الصراع الفكري والسياسي لانتصار الصالح من هذه الاتجاهات واندحار الفاسد منها.
إن بعض الدارسين يعتقدون أن سعاده هو مع التمثيل السياسي للأحزاب والاتجاهات السياسية الموجودة في مجتمع ما قبل انتصار القومية الاجتماعية واستلامها زمام السلطة في الدولة، أمّا بعد ذلك فلا. نحن لا نعتقد ذلك أبداً ودليلنا إنه لا يوجد أية إشارة لذلك في كل تراث سعاده وفي كل مواقفه السياسية. بعد انتصار القومية الاجتماعية لن يكون هناك حاجة أو مبرر لمنع نشوء أحزاب وبرامج سياسية مخالفة كلياً أو جزئياً لبرنامج الحزب السوري القومي الاجتماعي، وتمثيلها حسب حجمها في الدولة. أولاً لأن سعاده مع الحرية وليس مع القمع، وثانياً لأن القومية الاجتماعية تكون قد انتصرت في وجدان الشعب وانتصارها لا يعني أقل من “ربح معركة العقائد” ولا يعود هناك خشية من سيطرة أية عقائد أخرى. وإذا كانت “الحرية هي حرية الصراع”، أي صراع العقائد والأفكار، وهي كذلك، فالصراع لا يقف والحرية لا تنتهي. الحرية ستبقى قيمة عليا من قيم المجتمع والدولة السورية القومية الاجتماعية. إن حرية العقائد الأخرى في إظهار نفسها والاشتراك في الصراع العقائدي هي حرية مضمونة في الدولة القومية الاجتماعية.
وما هي الإرادة العامة؟
الإرادة العامة هي واحدة لأنها وليدة مصلحة عامة واحدة تعني الشعب كله ويسعى وراءها الشعب كله. لذلك فالإرادة العامة لا تساوي مجموع الأهداف والبرامج السياسية الخاصة والمختلفة والمتفاوتة للأحزاب السياسية. لذلك فإن تمثيل الأحزاب السياسية لا يعني تمثيلاً لإرادة عامة، بل يعني تمثيلاً لسياسات وبرامج خاصة بتلك الأحزاب.
فسعادة ليس ضد التمثيل السياسي لمختلف الاحزاب والاتجاهات السياسية، في الدولة. ولا مرة سعاده كان ضد مبدأ التمثيل السياسي، وبالعكس من ذلك فقد طالب به في برنامجه الانتخابي سنة 1947. ففي بيان الحزب ومنهاجه النيابي عن إرادة الشعب اللبناني، وتحت بند الإصلاح السياسي، نقرأ:
إيجاد التمثيل المسؤول لمصالح الشعب بواسطة الأحزاب ذات الأهداف القومية والمناهج الشعبية العامة.
إلغاء التمثيل الطائفي وإقامة التمثيل القومي.
هذا هو الالتباس الذي يقع فيه الكثيرون فيظنون أن سعاده يقبل بالديمقراطية التمثيلية (تمثيل الإرادة العامة) لمجرد أنه يقبل بالتمثيل السياسي. يجب إزالة الالتباس ومعرفة أن تمثيل الإرادة العامة المرفوض عند سعاده هو غير التمثيل السياسي المقبول منه.
إذاً، ليس صحيحاً أن تمثيل الإرادة العامة هو نفسه التمثيل السياسي. إن الفرق لَواضحٌ وكبير وهو أن الإرادة العامة هي “عامّة” أي واحدة للجميع، للشعب كله، وهي نتيجة مصلحة عامة واحدة يسعى لها الشعب كله. أمّا التمثيل السياسي فهو تمثيل متعدِّد “لإرادات” متعددة ومختلفة ومتباينة نتيجة مصالح متعددة ومختلفة ومتباينة تظهر في وجود أحزاب متعددة ومختلفة ومتباينة.
أخيراً، لا بد من الاستدراك والتنبيه، إن قولنا بأن سعاده ليس ضد التمثيل السياسي لا يجب أن يُفهَم بشكل مطلق، بل بشكل نسبي. فسعادة بلى هو ضد التمثيل السياسي للفئات المغلقة التي تعمل لمصالح ذاتية خاصة فقط ولا تلتفت للمصلحة العامة الواحدة للمجتمع كله، مثل الفئات الطائفية والعنصرية والطبقية، لكنه ليس ضد التمثيل السياسي بشكل مطلق. لذلك قال بإلغاء التمثيل الطائفي وإقامة التمثيل القومي.
الإرادة العامة إذاً هي ما يريده الشعب كله، تحقيقاً لمصلحة واحدة تعنيه كله، هي ما يجمع عليه، وهي ليست مجموع إرادات سياسية مقفلة لتحقيق مصالح فئات مغلقة.