في تصريح للسياسي الإيطالي الشمالي، ميليو، عام 1993، يمكن لأوروبا الغربية أن تستعين مجدداً بأوروبا الشرقية (البربرية) كحارس حدود كما كانت عليه قبل المعسكر الاشتراكي.
فما الذي يفسر تبعية غالبية بلدان أوروبا الشرقية للإمبريالية الأمريكية خصوصاً وللمتروبولات الإمبريالية الأوروبية، وكيف تحولت هذه البلدان من حلف وارسو (أيام الاتحاد السوفييتي) إلى حلف الناتو، رغم أن غالبيتها تشترك مع روسيا في التاريخ الديني الأرثوذكسي، والإثني السلافي. وبإستثناءات قليلة مثل (المجر) وتيارات سياسية هنا وهناك. فإن أوروبا الشرقية اليوم من أخطر المجالات الحيوية لحلف الأطلسي بلا مقابل. بل أن كل ما هنالك أن هذا الجناح من أوروبا تحول إلى مجرد مخزن بشري أكثر (أماناً) وتكيفاً للعمالة البديلة عن عمالة المهاجرين من أفريقيا وآسيا.
واللافت للانتباه أن بلداناً في أوروبا الشرقية كانت تصدر اللحوم والحليب والمنتجات الزراعية، باتت تستوردها بتغطية ديون تحولت إلى (قاتل اقتصادي) برسم الابتزاز، كما فقدت شعوبها تسهيلات كبيرة في قطاع التعليم والصحة والمواصلات والطاقة.
بالعودة إلى العنوان (القلاع الأمامية الرجعية في أوروبا) فهو تعبير لكارل ماركس أراد منه وصف أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر، عندما كانت تحت سيطرة روسيا القيصرية ومخزناً لغلالها ومادة للتجنيد العسكري لها تحت غطاء إعادة مجد الإمبراطورية الأرثوذكسية في بيزنطة (باستثناء بولندا وبعض منلطق رومانيا الكاثوليكية).
ويلاحظ أن مجموعة من العوامل ساهمت فعلاً في تهميش هذا الجزء من أوروبا، فالمتابع لتاريخ أوروبا الشرقية، يلحظ هذا التهميش قياساً بأوروبا الغربية ودول مثل السويد ومناطق الفايكنغ.
وبحسب الوقائع والمؤرخين وحتى الأعمال الأدبية الكبيرة لشكسبير وغيره، يظهر هذا التهميش في غياب بصمات شرقية خاصة، بالرغم من روايات التمرد على الاحتلال التركي في رومانيا، ومنها دراكولا، وما ذكره ابن فضلان في رحلته إلى بلاد البلغار.
ربما يعود ذلك إلى إقطاع مشرذم بلا هويات سياسية، وإلى أن هذه المنطقة كانت مسرحاً لتجاذبات الإمبراطوريات الإقطاعية الكبرى المتصارعة، غرب أوروبا وروسيا والعثمانيون، كما لم تفلح الأرثوذكسية المتأخرة فيها بإنتاج حالة تشبه الحالة الروسية منذ سقوط بيزنطة.
ويشار كذلك إلى أن تأثيرات الإمبراطورية الرومانية ظلت على هامش الحياة الثقافية والسياسية، كما تسببت الغزوات المركبة، الآسيوية وخاصة المغول، وكذلك الفايكنغ بنتائج كارثية.
إلى ذلك، وفي محاولة لتفسير تحول أوروبا الشرقية من قلاع أمامية لروسيا القيصرية، إلى قلاع أمامية لأمريكا الأطلسية، من الخطأالمعرفي والأخلاقي التفتيش عن ذلك في مخزن المركزية الثقافية الأوروبية-الأمريكية واستعارة أية مفاهيم أنثروبولوجية عنصرية، فقد كفانا ليوشتراوس في (العقل البري) هذه الكذبة، فما من تمييز بين العقل البشري (أعدل الأشياء بين الناس).
وبالمثل، فإن التباينات الاجتماعية السياسية داخل أنماط الإنتاج المختلفة ليست حاسمة في هذه الحقبة أو التشكيلة من تاريخ البشر.
نتابع ذلك، حتى لا يقع أحد في خطأ الحكم بالإعدام على نصف أوروبا الشرقي الذي لم ينخرط يوماً في أي شكل من أشكال الاستعمار، فهذا النصف الذي تحول إلى رقعة شطرنج للأطلسي كان حتى وقت قريب جزءاً هاماً من حلف وارسو المناهض للإمبريالية، وقدم أسماء كبيرة في الفكر والأدب والفنون مثل لوكاتش وجوليا كريستيفا وبولانسكي وبوليتزر.
صحيح أن بقية القارات، من أمريكا اللاتينية إلى قسم كبير من أفريقيا وآسيا، شقت عصا الطاعة وراحت تتلمس سيادتها في عالم جديد متعدد الأقطاب يتشكل بسرعة، إلا أن ذلك لا يعني إسدال الستار الأطلسي على شرق أوروبا والاتكاء على أطروحات نظرية خطيرة تقارن شرق أوروبا بالركود الآسيوي وتأصيل الاستبداد، وهي نظرات تحتاج إلى نقاش أيضاً. فأكثر البلدان (اتهاماً) بالركود الآسيوي الهند، تدير نفسها اليوم بمزيج من التطور الاقتصادي المتسارع والمناورات السياسية، فضلاً عن بؤس وهشاشة نظريات السكون السياسي.
إن أزمة أوروبا الشرقية اليوم، هي ذاتها أزمة الاصطفاف مع الأطلسي بجناحيه الأمريكي الأوروبي: الأمريكي الذي يراهن كذلك على (قوة فتية) ضد أوروبا الهرمة التي يناصبها العداء بقدر ما يتحالف معها ضد بقية الشعوب، كما أن أزمة أوروبا الشرقية اليوم ليست بعيدة عن أزمة أوروبا الغربية نفسها، التي لا يقل ارتهانها لواشنطن عن أوروبا الشرقية، بل إن الثانية قد تكون محصلة الأولى.
إن أوروبا الشرقية وهي تتخبط في الطريق إلى الاتحاد الأوروبي ستدرك آجلاً أم عاجلاً أن هذا الاتحاد فتح أبوابه أمام عمالة شقراء، بديلاً عن عمالة العرب والأفارقة والآسيويين، وستدرك كذلك أن الإمبريالية الأطلسية بجناحيها، الأمريكي والأوروبي، دخلت الطور الأخطر من أزمتها البنيوية، وأن باب السلامة الاستراتيجي هو في التكييف مجدداً مع العالم عبر الشريك التاريخي، السلافي الأرثوذكسي الذي يقدم اليوم صيغة تشاركية مختلفة هي الصيغة الأوراسية.