قبرص نجمة الهلال السوري الخصيب

عندما يقرّر أنطون سعادة “أنّ قبرص هي قطعة من الأرض السورية في الماء، وأنّ تكوينها الجيولوجي من تكوين هذه الأرض، وموقعها الجغرافي يجعلها تابعة له..”، فإنّه قرار العالم المتيقن من صحة ماذهب إليه، وما أكّده علماء الجغرافيا الطبيعية بفروعها.

أولا: تكوين قبرص الجيولوجي: يؤكد الجيولوجيون أنّ جزيرة قبرص تشكّلت في الدور الجيولوجي الثالث عند حدوث غور الانهدام في سورية الطبيعية. وبفعل الحوادث الجيولوجية والحركات التكتونية انفصلت الجزيرة عن جبال أنتي طوروس التي تشكّل حدود البيئة الطبيعية السورية في الشمال الغربي. يتسابق الجيولجيون في تقديم الأدلة على ذلك من تشابه وحدة المواد الطبيعية والتربة والصخور، إلى اعتبار جبال ترودوس في السلسلة الجنوبية الغربية في الجزيرة امتداد لجبل الأقرع في الشام، وإلى التأكيد على اتصال الجزيرة حتى اليوم بالشاطئ السوري عبر عمق المياه. وتبنت هذه النظرية المؤسسات العلمية وغيرها. فورد، مثل، في الانسكلوبيديا الأميركانية:” إنّ قبرص كانت في زمن ما تتصل بآسيا (الشاطئ السوري). كما أكّد العالم الفرنسي دوبرتريه هذه الحقيقة بعد سلسلة من الدراسات في تكوين التضاريس السورية. ويؤيدها اليوم كلّ دارس وباحث في هذا الشأن، وعلى سبيل المثال لا الحصر يقول مؤيد الكيلاني: “إنّ أميز شيء في شكل قبرص الجغرافي هو امتداد لسان من الجزء الشمالي منها نحو نحو ساحل الاقليم السوري، بما يشبه عين الزرافة المشرئب، كأنّ الطبيعة أبت إلا أن تترك الأثر الجيولوجي السرمدي الذي يشير إلى اتصالها الطبقي بالساحل المذكور.. (1) . حتى تضاريس الجزيرة هي نفسها في الوطن الأم، تتألف من سلسلتي جبال كيرينيب وترودوس، يتوسطهما سهل مركزي هو سهل ميسوري. وهي أقرب ما تكون في الشبه إلى سلسلتي جبال لبنان يتوسطهما سهل البقاع.

ليست قبرص هي الجزيرة الوحيدة من الأرض السورية في الماء، هناك عشرات الجزر، مقابل الشاطئ السوري، وفي الخليج العربي، وقد تقع حوادث جيولوجية جديدة تؤدي إلى فصل بعض أشباه الجزر عن اليابسة السورية. فهل تفقد الأمة الحقّ بها؟ علما أنّ هناك العديد من بلدان العالم تمتلك عشرات، بل مئات الجزر، وهي تفوق في بعضها مساحة جزيرة قبرص فهل هذا يعني الشكّ بانتمائها إلى تلك الأوطان؟

ثانيا: موقع قبرص الطبيعي: يقول سعادة:” أمّا جزيرة قبرص فترون موقعها في حضن خليج الاسكندرونة وذراعها ممتدة نحو الخليج، فكأنّها تقول من هذه الأرض أنا، وإليها أنتمي. إنّ هذه الجزيرة تكاد تكون ملتصقة بالشاطئ السوري.. “(2) .

يحتضن خليج الاسكندرونة السوري قبرص كما تحتضن الأم طفلها، فهو منها، ولكن سنّة الحياة فصلته عنها، لتستمر وحدة الحياة في التنامي، ترقى نحو الخلود. وهكذا فانفصال الجزيرة عن الوطن الأم لا يتنافى وصلتها الحقيقية به، فهي سورية المنشأ والانتماء.

إنّ قبرص تسبح في المياه الاقليمية للشاطئ السوري، تقع في الزاوية الشرقية الشمالية منه، على بعد 64 كلم من رأس عماطور في كليكيا المحتلة من تركيا، وعلى بعد 95 كلم من من الجبل الأقرع، مساحتها 9251 كلم2، وهي الأقرب من الساحل السوري من أقرب جزيرة يونانية تقع على بعد 480كلم، وهي جزيرة رودوس. وهذا يعني أنّه من حيث المسافة فهي الأقرب للساحل السوري من الأراضي التركية واليونانية. …

ثالثا: أهمية قبرص الاستراتيجية: لعبت قبرص دورا هاما في الحفاظ على سلامة الوطن السوري عبر التاريخ، وكان لمركزها الاستراتيجي أهمية كبرى في في الحفاظ على سلامة الوطن كما كان له دوره في الحفاظ على نجمته، فسلامة الوطن واحدة متكاملة لا تتجزأ.

أثبتت أحداث التاريخ إنّ حياة الأمم هي حياة حقيقية، وسلامتها ضرورية لسيادتها واستمرارها وارتقائها. فضلا عن أنّ حياة الأمة لا تتأمن إلا بوحدتها وابعاد الأخطار عنها، من هنا فالوحدة الاستراتيجية العسكرية للأمة ضرورية من خلال إعداد جيش قويّ لصيانة سلامة الأمة في معترك الصراعات على المصالح.

منذ فجر التاريخ تنبه أبناء هذه الأرض لوحدتها فعملوا على تحقيقها في مراحل متعددة. كذلك لاحظ الطامعون بهذه الأمة هذه الحقيقة، فاحتلوا هذا الوطن ومن ضمنه جزيرة قبرص.

السومريون السوريون، منذ أكثر من ستة ألاف سنة أدركوا أهمية هذه الوحدة، فحققوها، فقد ورد على لسان أحد كهنتهم (3):” لقد وحدت بلادي من البحر الأعلى (البحر السوري)، إلى البحر الأدنى (الخليج العربي)”، وحرست شواطىء بلادي بحارس أمين” وهذا الحارس الأمين هو جزيرة قبرص. وفي العام 2750 ق م. وحّد القائد السوري سرجون الأكادي سورية الطبيعية، ومن ضمنها جزيرة قبرص. وبعد حوالي ألف وخمسمائة سنة، يتخذ الفينقيون السوريون من الجزيرة قاعدة بحرية لنشاطهم التجاري في حوض البحر السوري وخارجه.

واتخذ الأشوريون السوريون من قبرص قاعدة عسكرية ومنها انطلقوا لفتح مصر عام 750 ق.م. وبعد العام 332 اشتدّ الصراع بين السلوقيين السوريين والطالسة المصريين للسيطرة على هذا الحصن البحري الاستراتيجي.

في عهد الدولتين الأموية والعباسية اشتد الصراع مع البيزنطيين من أجل السيطرة على الجزيرة، فقاد معاوية بنفسه، ترافقه زوجته، أسطولا بحريا وحرّر قبرص عام 647م. فضمن بذلك أمن البحر السوري، وهو القائل للخليفة عثمان بن عفان:” إنّ قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلاب قبرص وصياح دجاجهم”، وفي ذلك دلالة واضحة على انتماء هذه الجزيرة وأهميتها للبر السوري. وعاد هارون الرشيد في العام 802 م. وأعاد تحريرها بعدما كان البيزنطيون قد استولوا عليها.

ويذكر أنّ الأمير فخر الدين المعني الكبير اشترط في معاهدته مع دوقية توسكانةعام 1608م. تحرير قبرص والحاقها بالوطن الأم، وكتب إلى دوق توسكانة، عندما طالبه بتنفيذ المعاهدة:” قبرص أولا، أوفماغوستا على الأقل”.!

في صيف 1960 أعلن المطران مكاريوس رئيس جمهورية قبرص انتماء الجزيرة إلى وطنها الأم(سورية الطبيعية) ، وذلك في مقابلة أجراها معه رئيس الحزب الرفيق جورج عبد المسيح ونشرت في جريدة الحزب السوري القومي الاجتماعي (الجيل الجديد)(4) .  فحاكت المخابرات الأميركانية مؤامرة بقيادة اليهودي كسينجر للاطاحة به، فنجحت في ذلك في العام 1974، وسنوضح ذلك في سياق البحث.

رابعا: أهمية قبرص للشاطئ السوري: الطامعون بالأمة السورية لموقعها الاستراتيجي وخيراتها الطبيعية، لاحظوا أهمية قبرص بالنسبة للشاطىء السوري، فأقدموا على احتلال البر السوري انطلاقا من قبرص، وبالعكس. فمنذ الاحتلال المصري، الفارسي، اليوناني، مرورا بالروماني، البيزنطي، الصليبي، وصولا إلى التركي فالبريطاني فالأمريكاني، وهذه الجزيرة تشكّل لهم مركزا حربيا، ومستودعا للأسلحة، ومركزا للأساطيل البحرية والجوية، وساحات لتدريب الجيوش وحشدها، سواء للانطلاق منها نحو آسيا الغربية، أو افريقيا الشمالية، أو أوروبا الجنوبية، وسائر المواقع الهامة في حوض البحر السوري (البحر المتوسط). هذا إلى جانب بناء القواعد العسكرية المجهزة بأحدث التقنيات الحربية.

بعد الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، انكشفت الخطّة الاستعمارية-الاستيطانية عبر معاهدة سايكس –بيكو الباطلة، ووعد بلفور اللاحقوقي لتفتيت سورية الطبيعية إلى كيانات طائفية هزيلة، ممّا أدى إلى قيام كيان عنصري يهودي في جنوبها، وخسارة أجزاء خصبة كبيرة من أراضيها ومجموعات من أبنائها في مناطق فلسطين والأهواز وكليكيا والاسكندرونة من قبل اليهود والفرس والأتراك واغراق نجمتها المنيرة في ظلمة الصراعات المذهبية المدمرة .. كلّ ذلك من أجل التمهيد لاقامة “اسرائيل الكبرى” على كامل التراب السوري، بما فيه جزيرة قبرص،

وقد رسم الارهابي مؤسس الصيونية هرتزل خطة دقيقة لاغتصاب قبرص، فكتب في تموز 1902 رسالة إلى الارهابي اليهودي روتشيلد يقول فيها:” علينا أن نهتم بقبرص ونرتب أمورها الداخلية وعبرها يجب أن نكثف اهتمامنا بفلسطين، ولا بدّ لنا أن نحتلها، فاذا استطعنا ان نهجر المسلمين من الجزيرة، حينها يتسنى لنا أن نشتري قبرص من اليونانيين، ونقنعهم بالهجرة إلى أثينا، أو جزيرة كريت. ويجب ألا ننسى أنّ مساحة فلسطين قليلة بالنسبة لليهود، ولا بدّ لنا من مكان قريب من فلسطين، لاسكان اليهود فيه، وقبرص مكان مثالي لذلك، لأنّها قريبة من أرض الميعاد”. ويدعي الارهابي الحاخام اليهودي أدين شستال:”إنّ لاسرائيل حقوقا تاريخية على قبرص “.

هكذا نفذت المؤامرة الكبرى على قبرصإنّ بلاء الأمة السورية، وعالمها العربي، بالاتراك والانكليز والفرنسين ومن ثم بالاميركان لا يقلّ بلاء عنها باليهود. فبعد احتلال تركيا للجزيرة على امتداد ثلاثة قرون (1571-1878م)، أقدمت الدولة العثمانية على بيع الجزيرة للبريطانيين بمبلغ 92799 جنيها استرلينيا، وصدق على هذه الصفقة في مؤتمر برلين عام 1878م. على أن تبقى قبرص تابعة لأنقرة اسميا، وتتعهد لندن بتقديم المساعدة العسكرية للسلطة العثمانية، إذ تعرضت لهجوم روسي. ضمّت بريطانيا الجزيرة إليها في مطلع الحرب العالمية الأولى، بعد أن انحازت تركيا إلى جانب الالمان في هذه الحرب، وعملت سياستها خلال 82 سنة  على تهيئة الأجواء لتفجير الصراع ا لدموي بين أبناء الجزيرة الواحدة، حتى إذا كان العام 1960، أقدمت بريطانيا على منح الجزيرة “الاستقلال” المشروط بالاعتراف بكيان العدو اليهودي والقبول بوجود عسكري بريطاني على أراضيها، وبعد مرور ثلاث سنوات على  اعلان هذا  المزيف فجّرت تل أبيب ولندن وأنقرة والمخابرات الأميركانية النزعات الدموية في الجزيرة، وحاولت تركيا مرتين في صيف 1974 وشتاء 1967 اجتياح الجزيرة، إلا أن الظروف الدولية لم تكن مؤاتية لها .  ولم تنفع طيلة الستينيات الحلول الواردة من عواصم دول الحلف الأطلسي، في اقناع رئيسها المطران مكاريوس في تقديم التنازلات على حساب وحدة الجزيرة، فأدت الأحداث المتتابعة إلى القطيعة النهائية بين المطران وأثينا في 15 تموز 1974، فردّت اليونان بالتعاون مع المخابرات الأميركانية وعلى رأسها اليهودي كسينجر، بانقلاب أطاح بالمطران الثائر، الذي كان قد أعلن في الستينات انتماء الجزيرة إلى البرّ السوري (راجع هامش رقم 4)، وتمّ تعيين العميل اليهودي “تيكوس سامبسون” رئيسا على الجزيرة. اعتبرت أنقرة أنّ الانقلاب اليوناني موجه ضدها، في الحقيقة جرى بالتنسيق معها، فهاجمت الجزيرة في 20 تموز 1974 واحتلت القسم الشمالي منها بجيش بلغ تعداده مليون ونصف جندي، مدمرة في هجومها المدن السياحية والاقتصادية في البلاد كنيقوسيا وكيرينيا وفماغوستا ولارنكا، واستولت على أخصب الأراضي الزراعية، ومناجم المعادن ومصانعها، وأهم موارد المياه العذبة، وميناء قبرص الوحيد، ومطارها الدولي. وأضحت الجزيرة بعد ذلك مقسمة عسكريا بين ثلاث قوى رئيسية الأتراك في الشمال، البريطانيون في الجنوب والأمريكانيون في المنطقتين. تحكمت بريطانيا بالمواقع الاستراتيجية في القسم الجنوبي في قاعدتي ديكيليا وأكروتيري، حيث تمركز أكثر من 15 ألف جندي، مزودين بأسلحة  نووية، وأجهزة تنصت متطورة ومراقبة الكترونية تشارف دائرة عملها، قناة السويس، الخليج العربي، مضيق الدردنيل، وجنوبي الاتحاد السوفياتي سابقا، وطول الشاطىء السوري، ونظرا لأهمية قاعدة أكروتيري فقد أطلق على الجزيرة إسم “حاملة الطائرات الكبرى”،نسبة إلى هذه القاعدة حيث رست أكبر حاملة طائرات بريطانية، وقد استخدمت القاعدتين المذكورتين في حروب 1956و1976و1973، لدعم الكيان اليهودي، وبعد العام 1974 أصبح لواشنطن مركزا ممتازا في هاتين القاعدتين .

أمّا واشنطن فقد سعت لدى تركيا لمنحها قواعد وتسهيلات عسكرية، لاسيما في منطقة كاربازيا القريبة من الشاطئ السوري، إضافة إلى مركز خاص لتدريب المظليين بالقرب من فماغوستا، ومركزي لاسلكي في بلدتي ميامي ليا وبرولا كوس.

إنّ حلف شمالي الأطلسي يسعى إلى تحويل جزيرة قبرص إلى قاعدة عسكرية متطوّرة لحماية مشاريع الاستعمار الجديد في المنطقة، ولضرب حركات التحرّر القومي فيها، ولمساندة “اسرائيل” في حروبها العدوانية الاجرامية على الكيانات السورية والعربية.

إنّ الأمة السورية تواجه خطرا مصيريا حقيقيا على وجودها: تركيا في الشمال ويهوديا في الجنوب، فاذا لم تسارع الأمة بالنهوض والوحدة وانشاء جيش قوي لصيانة سلامة الأمة، فإنّ كياناتها جميعا مهدّدة بالسقوط، الواحدة تلو الأخرى، ومتى سقطت سورية الطبيعية، سقط الحصن الطببيعي للعلم العربي من محيطه إلى خليجه.. فسورية القوية هي الدرع الذي يحمي والسيف الذي يضع حدّا للاعتداءات الخارجية.

إنّ قبرص التي سطع منها نور الفلسفة الرواقية معلمة الفلسفات اليونانية والرومانية والمسيحية والمحمدية وغيرها، وانبعثت من مياهها عشتروت سيدة العطاء والجمال والفداء، وحيث يتفجّر من مدينتها باخوس أحلى نبع هو “نبع الحبّ”، لتعانق مياهه في البحر السوري أقدس نهر”نهر تموز”، نهر الشهادة والبعث والقيامة. إنّ هذه الجزيرة هي سورية، وهي نجمة الأمة في هلالها السوري الخصيب. كانت في البدء وتبقى إلى الأزل “الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها، تمتدّ من جبال طوروس، في الشمال الغربي، وجبال البختياري في الشمال الشرقي، إلى قناة السويس، والبحر الأحمر في الجنوب. شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب، شاملة جزيرة قبرص، إلى قوس الصحراء العربية وخليج العجم في الشرق. وتوصف بالهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص “.

(المبدأ الأساسي الخامس من تعاليم الحركة السورية القومية الاجتماعي

الهوامش

  1. مؤيد الكيلاني: قبرص جزيرة السحر والجمال، اصدار 1960.
  2. أنطون سعادة ” المحاضرات العشر، المحاضرة الخامسة.
  3. الكاهن هو ايريش وقد ذكره المؤرخالانكليزي ويلز في كتابه”معالم التاريخ”.
  4. الجيل الجديد: “عشرون دقيقة وعشر أسئلة مع مكاريوس”، العدد106، تاريخ 12 آب 1960، ص7.