أنطون سعادة وشهادة تصنع المستقبل

خمسة وسبعون عاماً مرت على استشهاد سعادة وكأنها البارحة، نحن الجيل الثالث بعد دعوته وثورته وشهادته، ولا زال ضجيج رفوش تلك الحفرة يوجعنا ويدمع عيوننا، ولا زالت تلك الليلة الكالحة الظلمة تدمي قلوبنا.

لم يكن عابراً ذاك الإعدام الأسود في تاريخ امتنا لمن أعلن نفيره على فساد سلطة البلاد ومؤامرات تلك المرحلة، واندفاع الغرب الرأسمالي يومذاك بمشاريعه السوداء على بلادنا، وتكريسه مطامعه في احتلال فلسطين واستقدام شذاذ الآفاق اليها، يستوطنوها محل أهلها وقد شتتوا الى كيانات الأمة.

ذنب سعادة العظيم، انه وعى باكراً واستشرف قبل سواه، ما يحاك لبلادنا، لقد واجه الحركة الصهيونية ومخططاتها باكراً، ودعا الى مواجهتها بحركة نظامية معاكسة، لإدراكه مخاطرها على بلادنا وهذا ما أدى الى تكاتف هذا العدو وادواته عليه.

منذ إعلانه في مقالاته، قبل التأسيس الى وعي مخاطر تلك الحركة التي تقوم على غير محورها الطبيعي، مروراً الى إعلانه المواجهة العسكرية على ارض فلسطين، مع هذا العدو، من خلال منظمة الزوبعة وقيام الضباط القوميين بتدريب القوميين، وصولاً الى خطابه عن اتفاقية التابلاين، في أيار من العام 1949 وتحذيره منها، ومن المطابع بثروات بلادنا ونفطها.

في تلك الليلة المدلهمة السواد تلك على الحزب والأمة، كان سعادة يعلن اثناء تلاوة فعل الاعتراف امام الكاهن الذي استدعي على عجل قبل إعدامه، انه لم يرتكب أي خطيئة شخصية ضد أحد، اساءته الوحيدة كانت لنفسه ولعائلته التي لم يسمحوا له حتى بوداعها.

جلّ ما فعله هذا العظيم، انه جعل من امته هاجساً، وكانت يداه المكبلتان، صورة عن امته المكبلة بضعفها، وكان رفضه ان يغطي عينيه، رفضاً لأن تبقى امته عمياء عما يكاد لها، وان تفتح عينها على كل ما يعدّ لها من دوائر القرار ومنظومة الأمم المهيمنة على العالم، بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية

خمسة وسبعون عاماً مضت على تلك الجريمة الموصوفة، ومثلها مرّ على اعلان دولة العدو “الإسرائيلي”، وها هي المؤامرة مستمرة على بلادنا وها هي الاطماع اليهودية وقد تجلت واضحة وقحة، ان في محاولات الهيمنة على ارض وعدهم المزعوم “من الفرات الى النيل” مرة بالتطبيع المهين وأخرى من خلال ما يدعونه اتفاقيات السلام المزعوم وهي مجرد شكل ملطف للاحتلال.

يومها قال، “انا اموت اما أبناء عقيدتي فينتصرون”، ووقفة العز تلك، أصبحت مدرسة يقتدى بها، وها هي تحصل يومياً في جنوب لبنان وفي فلسطين وغزة الصامدة والمقاومة، في ملحمة بطولية لم تحصل في العالم كله وهي تستمر، منذ نحو تسعة أشهر والى الان.

وقفته، وبيان ثورته، أكد فيهما قراره بتعزيز قوة الأمة من خلال تطبيق مبادئ حزبه الإصلاحية لبناء جسم متفاعل، يعيد عن المذهبية والفئوية والطائفية والعشائرية … الخ وكل اشكال الضعف التي زرعتها الاحتلالات تاريخيا، وساعياً الى جيش قوي وإرادة أقوى للشعب لصون البلاد.

هاجسه كان ان تكون الحركة   النظامية التي أسسها، والمؤسسات، التي وصفها بأنها “أعظم اعماله بعد تأسيس القضية القومية …” ان تفعل إدارة وسياسة وحرباً،” للأمة بأسرها.

هو أراد استشهاده، مؤثراً وعلامة فارقة في تاريخ حزبه وبلاده.

لم يضعف او يتراجع وينجو بنفسه، ولم يفضل حتى عائلته على خيار استشهاده من اجل مبادئه، روايات تلك المرحلة كثيرة، عما بذل معه من محاولات لثنيه عن خيار تسليم نفسه، وأيضا حديث عن الخيانة وضعف البعض، جعل منه وامته صنوان، الاثنان اصابهما ضعف وخيانة الأقربين.

ميزة سعادة الأبرز كانت سمو خلقه، وهو الذي اعتبر دوماً ان “الاخلاق هو في صميم كل نظام يكتب له ان يبقى.”

اليوم تعود منطلقات ثورة سعادة الواضحة، عن الوعي الذي أكد عليه لمواجهة المخاطر، والذي تجسده إرادة ثابتة تصنع الانتصارات، وتعطل المشاريع المتربصة بالأمة وتقدم دمها ونفسها في مواجهة سلاح مدعوم من قوى الاستعمار الامبريالي، وهو يبيد شعبنا، ولكنه لا يحنيه ولا يهزمه، لا بالقتل ولا بالحصار ولا بالتجويع.

 يوم الفداء وقد تجلى هذا العام بأبلغ صورة  ،بالقوة التي  استشرفها سعادة انها وحدها تغير وجه التاريخ ،وقد  غيرته   بالفعل وها هو  السابع من أكتوبر وبطولات أبناء شعبنا  تغير اراء العالم اجمع حول قضية امتنا ،وهو القائد البطل  الذي ثار من اجل النهوض بأمته، ولكن الخائفين من تأثيره قتلوه وكان استشهاده وقفة للتاريخ، هو رجل اقتدى به كثر، بوقفة العزّ والعنفوان والبقاء، بصبره وايمانه.

أنطون سعادة، منذ استشهاده، لم يعد اسماً يخصّ حزبه وحده او امته وحدها، هو قائد ومعلم عظيم، انتصر بأمته ووثق بقدراتها وآمن انها ستستعيد نهضتها وحضورها بين الأمم القوية.

رئيسة التحرير