بعد عدة محاولات تأسيسية لجمعيات سياسية سورية في المغترب تهدف إلى النهوض بالسوريين المغتربين أواخر عشرينات القرن الماضي، اكتشف سعاده استحالة تحقيق الأهداف المتوخاة في الخارج، وقرر العودة إلى الوطن السوري في مطلع الثلاثينات لينطلق بعملية بناء المداميك الأولى لنهضة الأمة بعد تحديد حقيقتها وهويتها وحدودها الطبيعية… لم يرتكز سعاده في عملية البناء لأي إرث سياسي أو ثروة شخصية أو دعم خارجي يمكن أن يمنحوه القدرة المادية اللازمة لإتمام عملية تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1932، فاقتضى إبقاء الأمر في غاية السرية بين عدد محدود من الطلبة الجامعيين، بالإضافة إلى تعثر التأسيس بسبب فقدان بعض المنتسبين الأوائل للأهلية المطلوبة في عملية البناء الأولى.
لقد نجح سعاده نجاحا باهرا في عملية بناء القدرات النفسية، وبسرعة قياسية نسبيا انتشر الحزب بشكل سريع في الأوساط الثقافية وفي مناطق متعددة مستفيدا من جرأة سعاده في مواجهة سلطات الانتداب الفرنسي إثر انكشاف أمر الحزب واعتقاله مع عدد من القوميين الاجتماعيين الأوائل…
لقد شكل نجاح سعاده في عملية البناء النفسي، رغم عدم شمول ذلك الكثيرين من المعاونين الأوائل، العامل الحاسم في بقاء الحزب واستمراره وانتشاره واستقطابه لنخبة غير قليلة من الطاقات البشرية التي حملت أعباء النهضة مع سعاده وبعد اغتياله ليل الثامن من تموز عام 1949 بمؤامرة مركبة ومتعددة الغايات الخبيثة والارتباطات الخارجية…
كما أشرنا فإن غياب الثروة المادية الخاصة، والحاضنة السلطوية أو الأجنبية لفكرة النهضة التي تقوم أساسا على رفض الإقطاع والطائفية والتبعية للأجنبي أو للأنظمة السلطوية المرتبطة مصلحيا بالخارج، كل ذلك شكل مانعا قويا لإمكانية حصول سعاده وحزبه على القدرة المادية اللازمة لتحقيق غاية الحزب بالتلازم مع القدرة النفسية الهائلة التي وفرتها قوة العقيدة وتماسكها وشفافية سعاده وشجاعته وتضحياته وعطاءاته اللامحدودة في سبيل نصرة القضية ونهضة الأمة التي بذل في سبيلها كل شيء وصولا إلى فديها بدمائه وحياته…
وما من شك أن أحد أسباب تعثر عملية بناء القدرة المادية للحزب – النهضة يعود إلى حرص سعاده على منع أي إمكانية لحرف الحزب عن تحقيق غايته واحتمال تجيير قوته في خدمة أي دعاية أجنبية أو حالة سلطوية في الوطن، فضلا عن حمايته من تفشي النزعات الفردية، على كثرتها، التي طالما حاولت اعتماد الحزب وانتشاره وقوته مطية لمصالحها الخاصة وارتباطاتها السلطوية…
لم يأل سعاده جهدا في سبيل بناء القدرة المادية لحاجة القدرة النفسية العالية والمتوفرة لها كي تتحقق بتكاملهما غاية الحزب – النهضة تعبيرا عن حركة الشعب العامة… حاور السياسيين والمثقفين وغالبية طاقات المجتمع، فاوض القوى السياسية والحزبية، وحاول الاتفاق مع بعضها، فكان يصطدم غالبا بالمكر والخداع ومحاولات الاستغلال أو تضييع الأهداف الكبرى… دعم التحركات المناهضة للانتدابين الفرنسي والبريطاني، وساند ثورة القسام في فلسطين وكل أشكال مقاومة أهداف ومخططات الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية تحديدا إلى فلسطين… حتى في مغتربه القسري في أميركا اللاتينية حاول التعاون مع الجمعيات والشخصيات السياسية السورية هناك لتوفير بعض الفرص لدعم الحزب وجريدته التي طالما شكى من غياب المعاونين الكفؤين حتى اضطر أحيانا للعمل كرئيس تحرير ومحرر بعدة أسماء ومدير للطباعة ومعقب البريد ومحصل الاشتراكات وكل ما يختص بصدور المجلة وتوزيعها… حتى أننا عند الاطلاع على ما تركه من رسائل نشرت في الأعمال الكاملة يبرز لنا وبوضوح شكوى الزعيم من ضيق الإمكانيات والقدرات المادية تحديدا، ما يشعرك أن هنالك طاقة وإرادة هائلة وعظيمة امتلكها الزعيم بشخصه مكّنته من رفد مسيرة النهضة بهذا الكم الهائل من غزارة الفكر والفلسفة والسياسة والأدب…
عاد سعاده من مغتربه القسري إلى الوطن عام 1947 ليجد حزبه قد تعرض لظاهرة إنحراف عقائدي – سياسي كادت تطيح بالبناء النفسي ما دفعه إلى تكريس جهوده في عملية الإعداد والتأهيل العقائدي ومواجهة حالة الانحراف وخصوصا في المستويات القيادية التي وثق فيها واعتمد عليها خلال فترة غيابه عن الوطن، فوقعوا فريسة ضيق الأفق والغرائز السياسية التي زينتها لهم قوى النظام السياسي الطائفي في الكيان اللبناني.
لم تسنح للزعيم مدة بقائه على رأس عمله الحزبي منذ العودة إلى لحظة الاستشهاد (أقل من سنتين) إلا أن يرمم القدرة النفسية ويثبت قوتها وقدرتها على رفض الانحراف ولفظ المنحرفين…
حاول سعاده جاهدا توفير السلاح / القدرة المادية للمتطوعين القوميين الاجتماعيين إسنادا للمواطنين الفلسطينيين في مواجهة الخطر اليهودي، لكن الجواب كان أن لا سلاح للقوميين، وسقطت فلسطين نتيجة الدعم الغربي المطلق للحركة الصهيونية وخديعة النظام الرسمي العربي الذي أطبق على كل إمكانية لمقاومة الاحتلال.
وبسبب الملاحقات القضائية والأمنية في لبنان اضطر الزعيم للتخفي أولا في ضهور الشوير ثم للذهاب إلى الشام وعقد تفاهم سياسي مع رئيس النظام حينها حسني الزعيم الذي وعد سعاده بتوفير كل أشكال الدعم السياسي والعسكري، ما يوفر القدرة المادية التي طالما حاول سعاده الحصول عليها دون التفريط بالثوابت القومية.
تفاقمت العلاقة سوءا بين الحزب وسلطات النظام اللبناني التي بدأت كل أجهزتها بملاحقة قياديي الحزب بسيل من الاعتقالات، وفبركت أخبار عن علاقة سعاده باليهود (يا للسخرية) مرفقة بسيل من الشائعات سعيا لتشويه صورته في المجتمع.
أمام هذه التطورات السياسية والأمنية المتلاحقة والخطيرة، وأهمها سقوط فلسطين بأيدي اليهود وتهجير أهلها، لم يكن أمام سعاده إلا خيار إعلان الثورة القومية الاجتماعية الأولى في تموز عام 1949، مستندا إلى وعد حسني الزعيم بتوفير القدرة المادية التي تمكن القوميين الاجتماعيين من مواجهة السلطات في الكيان اللبناني والقوى الطائفية المكونة له. لكن حسابات الحقل لم تكن بسوية حسابات البيدر، فغدر حسني الزعيم بسعادة وفق ترتيبات مؤامرة أجنبية أدت إلى تسليم الزعيم للسلطات اللبنانية لاغتياله في ليلة ظلماء غادرة.
استشهد سعاده وفي جيبه 400 ليرة وكل ثروته قطعة أرض متواضعة في ضهور الشوير، أوصى بهما لزوجته الأمينة الأولى وبناتها الثلاثة اللواتي كن بعمر الطفولة الأولى.
استشهد الزعيم ولم يستطع استكمال بناء القدرة المادية، ولو بحدها الأدنى، فبقيت القدرة النفسية الفائقة عاجزة عن تحقيق النصر والغاية الأسمى…
بعد سعاده، حافظ الحزب – النهضة على قوة البناء النفسي المتين الذي أودعه سعاده، واستطاع الحزب بناء بعض القدرات المادية والعسكرية تحديدا في الخمسينات، مرحلة تولي الأمين غسان جديد مسؤولية عميد الدفاع، الذي استفاد من حضوره وعلاقاته داخل الجيش الشامي، ما أدى إلى استهدافه واغتياله في بيروت عام 1954. كما وفرت أحداث 1958 في الكيان اللبناني، رغم الاشتباه في موقف الحزب وتحالفاته السياسية حينها، إلا أنها وفرت قدرات وخبرات عسكرية لميليشيا الحزب فضلا عن حضور الحزب داخل ثكنات الجيش اللبناني من خلال الضابطين فؤاد عوض وشوقي خير الله وعدد من الضباط والرتباء والعسكريين، ما مكن الحزب من خوض مغامرة المحاولة الانقلابية على النظام اللبناني، والتي كان نصيبها النجاح لولا ضعف وعدم اكتمال القدرة المادية للحزب تاريخيا.
في السبعينات وفرت الأحداث اللبنانية وتحالفات الحزب السياسية حينها في عهد الرئيسين الأمينين إنعام رعد وعبدالله سعاده، بعض القدرات المادية والتي مكنت الحزب من المشاركة في قتال القوى الانعزالية والتصدي للعدوان اليهودي المتكرر، وقد وصلت قوة الحزب ودوره العسكري والأمني في مرحلة حضور الأمينين محمد سليم ونبيل العلم على رأس عمدة الدفاع، وتحقيق الحزب لإنجازات عظيمة كان أبرزها عملية إعدام العميل بشير الجميل التي نفذها بطلنا الأمين حبيب الشرتوني في أيلول عام 1982، وتطور دور الحزب بعدها في المقاومة الوطنية وصولا إلى العمليات الاستشهادية التي سجلت نقلة نوعية في مواجهة العدو، فضلا عن توفير الفرصة للحزب لتطوير قدرته المادية / العسكرية التي أحبطتها مؤامرة اغتيال عميد الدفاع وإدخال الحزب في أزمة داخلية خطيرة أدت إلى إخضاعه للهيمنة الفئوية والتبعية، فتبددت قوته وقدراته وفقد دوره المقاوم.
وبفعل قوة البناء النفسي التي أرساها سعاده استطاع الحزب مؤخرا التخلص من ظاهرة الهيمنة عام 2020، ويعمل الحزب حاليا على إعادة توفير القدرة المادية / القتالية مستفيدا من تجربة مشاركة نسور الزوبعة في مواجهة الإرهابيين في الكيان الشامي، ما مكن عميد الدفاع الحالي الأمين زياد معلوف وبدعم مطلق من رئيس الحزب الأمين د. ربيع بنات ورئيس وأعضاء المجلس الأعلى، فضلا عن حماس القوميين الاجتماعيين في منفذياته لاستعادة دور الحزب المقاوم، من توفير الظروف والإمكانات لمشاركة الحزب النوعية في جبهة الإسناد اللبنانية دعما للمقاومين في غزة وفلسطين.
خلاصة الأمر أن مسألة توفير القدرة المادية اللازمة للحزب – النهضة هي غالبا محظورة، وقد تعرض الحزب إلى المزيد من المؤامرات التي لا يمكن تجاوز مخاطرها إلا بالصمود والصبر والتماسك والثقة التي تمكن الحزب من تعويض أية خسارة قيادية كما هو الحال عند الآخرين من قوى المقاومة. فاستشهاد قائد على أيدي أعداء الحزب يمنحه المزيد من القوة والثبات، أما أن يصطف بعض القوميين الاجتماعيين طوعا وجهلا إلى جانب المؤامرة فهذا يجعل الأمر أكثر تعقيدا وخطورة…
وكأنني بالزعيم اليوم يقول للمتأففين والمشككين والمتعبين والمحبَطين والمحبِطين… كم أن نهضتنا بحاجة إلى مُتَطَوِّعين تنويريين لا إلى مُطَوِّعين تكفيريين.
عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الإجتماعي الأمين خضر سليم