في تكريم جان داية

في تكريم جان داية

غصة هي في القلب وألم يحزّ في النفس ألا يكون إلى جانبنا سيد المنابر الرفيق جان داية ليتحفنا بأسلوبه الساحر الساخر في لقاء تكريمه، وكأنّي به كان سيعلّق، على هذه المبادرة، بكلمة شكرا لمحبتكم، أو بعبارة لم يحن الوقت بعد على تكريمي لأنني لم أكمل رسالتي، وباعتقادي أنّه سيقول لم يحن الوقت بعد، ودليلي هو إخباره في إصداره الأخير (سقط سهوا) أنّ كتبا ستصدر قريبا، وأخرى قيد الإعداد حسب علمي الأكيد.

تعجز الكلمات، مهما كان عمقها الوجداني أن تفي هذا الرجل البحاثة الموسوعة الملتزم بقضية تساوي الوجود، حقّه في التكريم. وتقيدا بالوقت المحدّد لهذه المداخلة، سأكتفي بالاشارة إلى بعض معالم هذه الشخصية المحببة لكلّ من عرفها.
تمّت عمادة جان ومسحه بميرون الانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتاعي في العام الثالث من انتظامه عندما استضافه القاووش رقم 14 في ثكنة المير شهاب لمدّة حوالي 100 يوما على أثر انقلاب 1962، وعلى الرغم من فشل هذه المحاولة وبطش السلطة واجرامها، فقد انقلب السحر على الساحر، إذ حوّل القوميون المعتقلون السجون إلى مدارس، أكّد رجالها أنّهم أبناء الحياة لا يهابون الموت متى كان طريقا إلى الحياة الحرّة. وجان كان واحدا من هؤلأ المناضلين، شاء من شاء وأبى من أبى، فانتاجه الثقافي ونضاله المتواصل خير دليل على قولنا.
جان اختصر حياته الحزبية، بعد نصف قرن بهذه العبارة المؤثرة، التي دوّنها لي: “حياتي الحزبية يا رفيق جهاد لا بدّ أن تكون بخطوطها العريضة، وربما بتفاصيلها، بعض حياتك الحزبية خصوصا بعسلها الممزوج بالعلقم”، حقا يا رفيقي ما قاله سعاده: إنّ ألاما عظيمة تنتظر كلّ ذي نفس كبيرة فينا. جان رفيق شجاع مشاغب بامتياز، وصل سيف مشاغبته حتى حرم الادارة الحزبية فانتقدها مرارا وتكرارا، وفي المرّة الأخيرة لم يسلم من العقاب، فجمّدت طبائع الاستبداد عضويته لوقفته الجريئة مع المظلوم ضد الظالم، في نشره مقالة نقدية: “رحيل أبو وليد وترحيل أم وليد” دون إذن مسبق، يا لسخرية تسخير النظام ومسخه!
استهواه منذ البداية سعيد تقي الدين حتى الثمالة فهو في نظره نموذج الأديب المبدع والعقائدي الصلب، فلازمه على امتداد حياته الفكرية منذ اوائل الستينات حتى غيبوبته المؤقتة، فأصدرعنه عشرات المؤلفات ودقّق أخيرا كتبه الــ 25 وقدّم لها، وكان على وشك إصدار جديد عنوانه: “نهارك سعيد”. غرامه بهذا الأديب، جعله موضع سخرية، حتى من أقربهم إليه، من فلذة كبده البكر أنيس ابن الخامسة الذي سخر منه لـ “سعتقيته” لكثرة ما يردّد اسم سعيد حتى أنّه طلب مازحا من والده ورقة وقلم ليكتب كلمة عن سعيد، فأصاب من جان مقتلا، فردّ على ابنه بمقالة في مجلة صباح الخير بعنوان “حتى أنت يا أنيس؟!”، وما أدراك ما مدى مقاربة هذا السؤال مع قول يوليوس قيصر لصديقه الذي غدر به وقتله: “حتى أنت يا بروتس؟”. إلى هذا الحدّ وصل عشق جان لأدب سعيد وشخصيته وسيرته.
جان دايه أنهك المكتبات الوطنية والعربية والأوروبية والأميركية بحثا وتقميشا وتدقيقا بحثا عن الأصول، لأنّ في ضياعها يضيع التاريخ، فساهم في صناعة التاريخ الذي رسم سعاده خطوطه العامة في المبدأ الأساسي السابع ” تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة وتاريخها السياسي الثقافي القومي” ، فكتب عن معظم رجالها العظماء الخالدين، الكواكبي خليل سعادة، ، جبران، الريحاني، البساتنة وغيرهم، وساهم مساهمة كبيرة في مدونات تاريخ الحزب فكتب عن سعيد تقي الدين،وغسان جديد،وخليل حاوي، محمود نعمة، وهشام شرابي، وفخري معلوف ومحمد يوسف حمود وسواهم، إلى جانب الكم الهائل من المقالات الصحفية .
وتعدّدت كتاباته عن أنطون سعادة، ومن أبرزها: سعادة والنازية، محاكمة سعادة الأولى، ومقالات ضائعة وغير موقعة، والنسخة الأصلية لكتاب نشؤ الأمم وغيره.
وفي الحصيلة خمسون كتابا قيمة مضافة في المكتبة القومية ” والخير لقدام”. أمّا غوصه في الأصول وانتقاده لبعض المسلمات فقد عرّضه للنقد، وكما انتقد انتقد، وكما أصاب أخطأ، وهذه من طبيعة الصراع الفكري، فالحرية الفكرية هي صراع العقائد والأفكار في سبيل الأفضل، ولا عجب في ذلك فجان انتقد نفسه حتى الخجل في اصداره كتابه الأول عن سعيد الذي أقدم على اتلافه بنفسه.
لم يكتف جان بالتفتيش عن الأصول في المكتبات، فهو يداهم باستمرار منازل القوميين والمشاهير بحثا عن مخطوطات لينشرها، وأخرها مذكرات الرفيق انطوان غربيت التي أحالها إلي لتدقيقها. وكنت قد دققت له عدّة كتب من بينها “قل كلمتك وقف” لمحمد يوسف حمود، ومقالات ضائعة لـ سعادة.
لقد عرفت جان منذ نهاية السبعينات، حيث عملنا سويّة لمدّة ثلاث سنوات في مجلة صباح الخير، وتشاركنا في مجموعة من الندوات، خصوصا تلك المتعلقة بمؤلفاتي.
جان كان مكتبة جوالة متنقلة لا يهدأ، لا يتعب، لا يمل، يتنقل من منزل إلى آخر، ومن مكتبة إلى أخرى، ومن معرض إلى معرض يتأبط الكتب بحنان الأم على طفلها. عرفته المجالس الأدبية والندوات والمحاضرات والحلقات التثقيفية ووسائل الاعلام على أنواعها.
هو ناقد ساحر ساخر: لا تفارق البسمة شفتيه، مرح، هادئ، مهذب شيق جذاب في حديثه، متميز بأسلوبه الساخر الراقي، على الطريقة السعتقية، والأمثلة كثيرة، منها، ما ورد في تقديمه لكتابي:”تجربة وزارة المغتربين وتهجير الأدمغة والشباب”، يقول:”اتصل بي من وزارة المغتربين رئيس مصلحة المغتربين والهجرة جهاد العقل ليس فقط ليطلب مني حضور “ندوة عودة الكفاءت اللبنانية المهاجرة”، وإنّما لألقي ربع محاضرة.. ليستدرك ربع محاضرة لأنّ ثلاثة الارباع الباقية توزعت على ثلاثة دكاترة آخرين.
وها هو يسخر من بعض الدكاترة الأكاديمين الذين يناقشون أطروحات الدكتوراة، عن جهل، فيقول: يتبع بعضهم منهجا حزبيا حيال صاحب الأطروحة. كما فعل د. جان شرف الذي لم ير ايجابية واحدة في دراسة جهاد العقل في موضوع الاغتراب الذي عجنه وخبزه، بحكم موقعه القيادي كضابط مجهول في هذه الوزارة (علما أن لجنة المناقشة منحت جهاد الدكتوراه بامتياز)، ويتابع بعض الدكاترة يناقشون كاتب الأطروحة ولا يتمتعون بمعرفة عميقة بالموضوع كما حصل في مناقشتين تناولتا سعيد تقي الدين، والبعض الآخر من الدكاترة يناقشون بفوقية طاووسية توحي بأمرين، أنهم يفقهون كلّ شيء، أو لا يفقهون شيئا يذكر.
السؤال المحيّر، هل تعب جسد جان الضعيف من عظمة دماغه، فتخلى عنه ليستريح، ويدخل الدماغ في هذه الغربة المؤلمة الموحشة، نتمنى لـ جان أن لا تطول غربته عنا ويعود إلينا نشاطا وحيوية وانتاجا ثقافيا لا ينضب.