سوريا والدروس المنسية للغزو الإسرائيلي 1982

سوريا والدروس المنسية للغزو الإسرائيلي 1982

بعد كامب ديفيد والضغط الأمريكي على الأسد عبر الأعمال الإرهابية الأصولية داخل سوريا، اتضح أن هناك سيناريو لإشراك عرفات في المرحلة التالية (أوسلو لاحقا) والتغطية على هذه التحضيرات بالإزاحة العراقية عن الجبهة مع العدو الصهيوني نحو إيران، وصولا إلى الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، ومحاولة تحطيم القوات السورية وتشتيت المقاومة الفلسطينية بين تونس واليمن، ومن ثم جر لبنان إلى اتفاق 17 أيار وحصار سوريا عبر هذا الاتفاق.
هذا ما يمكن قراءته من متابعات المحلل العسكري الصهيوني، زئيف تشيف، في كتابه هكذا غزت إسرائيل لبنان.
بحسب زئيف: الثلاثاء، 8 حزيران. منتصف الليل، دخل صوت الجنرال (بن غال) قائد القطاع الشرقي، على خطوط الاتصالات، وأصدر أوامره لجميع الوحدات – بالهجوم فوراً على (جزين).
قسمت القوة الإسرائيلية المدينة إلى قسمين، ووجدت نفسها بين القوات السورية عن شمالها ويمينها. ووجدت، في نهاية تقدمها، أنها وقعت في كمين، إذ فاجأتها الدبابات السورية بنيران كثيفة.. ومنذ اللحظات الأولى، من الرد السوري، التهمت النيران خمس دبابات إسرائيلية، لكن تفوق إسرائيل بعدد الدبابات المهاجمة المدعومة من المروحيات مكنها من السيطرة على المدينة.
وبالرغم من تفوق القوات الإسرائيلية المتحركة على عدة جبهات، إلا أن تحركها لم يكن ناجحاً، بل تمكنت القوات السورية من إيقاف معظمها، وتدمير بعضها كما حدث لقوة الكولونيل (عفروني)، التي توغلت بسرعة، حتى وصلت قرية سلطان يعقوب، حيث كانت تنتظرها كتيبة سورية مجهزة تجهيزا کاملاً بمختلف الدبابات والأسلحة، كان (عفروني) يعتقد أنه سيفاجئ السوريين هناك ويقضي عليهم بسهولة… حتى طلع الفجر، فإذا بقواته تحاصرها القوات السورية من جميع الجهات، وإذا بها تحت مرمی المدفعية السورية.. واستنجد (عفروني) ساعات طوال، لكي تأتي الطائرات، وأية قوات لنجدته… واشتركت مجموعة من الفصائل الإسرائيلية حسب خطة خاصة، لإنقاذ كتيبة (عفروني)… ولكن وضعها الجغرافي والعسكري كان يائساً لدرجة أن جميع الإمدادات لم تنقذ (عفروني) وكتيبته من خسائر فادحة جداً أنزلتها بها القوة السورية. صحيح أن جزءاً من رجال الكتيبة نجحوا في الهرب سالمين، تحت غطاء قصف مدفعي إسرائيلي من جميع الجهات، إلا أن خسائر كتيبة (عفروني) كانت كبيرة في الرجال والمعدات… كما وقع عدد من الأسرى في إيدي السوريين.
مساء الخميس بدأت كتيبة (جولاني) تحركها من قرية (الدوخة) نحو (كفر السيل) وعبر طرق جبلية وعرة، مما اضطرها لاستعمال الجرافات، لشق الطريق أمام الدبابات والمدرعات. وقد وصف (ايتان) معركة (كفر السيل) بأنها أشرس المعارك في حرب لبنان.. لأن المواقع السورية المحصنة كانت في انتظار اقتراب القوات الإسرائيلية، وأخذت تضرب الدبابات الإسرائيلية بالصواريخ المحمولة، ضربات دقيقة من موقع مرتفع يدعي (تل الرادار). أصيبت أول دبابة إسرائيلية إصابة مباشرة، فانفجرت لتوها، وقتل جنودها الأربعة. ولم يزحزح القوة السورية من مكانها الحصين إلا سد عنيف من نيران المدفعية المركزة شاركت فيه مجموعة من طائرات سلاح الجو، حتى اضطرت القوة السورية للتراجع.
ثم أصبح على المظليين الإسرائيليين احتلال موقع (تل الرادار) من السوريين، الذي كدسوا حوله قوة تحميها أكثر من (28) دبابة روسية من نوع (ت – 54) حول وداخل قرية (كفر السيل). واستعرت نار الحرب في (كفر السيل)، التي لا يزيد أطول شوارعها عن الكيلومتر الواحد، استعرت طيلة (19) ساعة متواصلة، ولم تنته إلا صباح يوم الأحد، وبعد استدعاء قوات جديدة لمحاصرة القرية.
ثم تحركت قوة (جولاني)، وقوة (يابير) عبر (قبر شمون) حتى قرية (شملان). وكان (يابير) يعلم جيداً أنه إذا انتهى من (شملان)، تصبح الطريق إلى (عين عنوب) مفتوحة أمامه، ومنها إلى قرية (باسابا)، وهي أول قرية مارونية تحت سيطرة الكتائب.
وتقدمت قوات (يابير) نحو (شملان)، حيث أبدى السوريون مقاومة عنيدة وصعبة… إذ كان تقدم القوات الإسرائيلية بطيئاً جداً، ولكن عليها أن تحتل المنطقة متراً بعد متر.
فلجأ شارون إلى طريقة وسط، إذ طلب من رجاله، أن (يزحفوا إلى الشمال، عن طريق التسلل وكسب الأرض تلاً وراء تل، ودائماً تحت شعار (تحسين المواقع العسكرية) وبحجة الرد على نيران السوريين والفلسطينيين المزعومة. ولكن… عمليات (الزحف) هذه لم تكن لتبرر استعمال سلاح الطيران.. مما أعطى السوريين تفوقاً كبيراً على الإسرائيليين.
في (19)، حزيران، شن الجيش أول هجوم له (شمالاً) نحوه مصيف (بحمدون)، وكانت العمليات صعبة، إذ كان على الجنود أن يشقوا طريقهم صعوداً، عبر ممرات صخرية وعرة، وفي مواجهة رجال الصاعقة السوريين الذين أخذوا مواقع حصينة لهم. وعندما نجح الإسرائيليون في السيطرة على (بحمدون) كانوا قد خسروا العشرات منهم.
في حزيران، 23 أوقفت قوة صغيرة من المغاوير السوريين مدربة على حرب الدبابات، أوقفت تحرك القوة الإسرائيلية، ووجد شارون أن عليه الآن أن يقاتل قادة الجيش. فمثلاً طلب (دروري) السماح لقواته بشن هجوم كبير على القوات السورية… وظل شارون يرفض، حتى صباح اليوم الثاني، إذ سمح بذلك، بعد ضغوط متزايدة من (دروري). ولم ينجح الإسرائيليون، في زحزحة القوة السورية، إلا بعد استدعاء الطيران لقصف الموقع السوري الحصين.
الرد السوري على الهدف السياسي (مشروع ريغان واتفاقية لبنانية – إسرائيلية)
أعلن مشروع ريغان رسمياً في الأول من أيلول ۱۹۸۲.
وفي شباط 1983، وصل مبعوثان أمریكیان، بطريقة سرية، إلى تونس، حيث يقيم عرفات مؤقتاً، ومعهما مشروع لترحيل المقاتلين الفلسطينيين الباقين في لبنان، عن طريق طرابلس، تحت حراسة ومظلة قوة دولية متعددة الجنسيات كما عرض العراق استقبال نسبة كبيرة من هؤلاء المقاتلين. وكان السيناريو الأمريكي يفترض أن تبدأ المفاوضات بعد الانتهاء من ترحيل المقاتلين – للوصول إلى حل للقضية الفلسطينية، حسب شروط مشروع ريغان.
بدأ الأسد تحرکه بأن أحدث انشقاقاً وتمرداً داخل حركة فتح، ليعاقب عرفات، على مغازلته للأمريكان وللأردن. وفي نفس الوقت، أخذ يضغط على أمين الجميل، لكي يصمد في وجه الضغوط الإسرائيلية ويرفض أية تنازلات سياسية. وجاءت الضغوط السورية عن طريق تقديمها مساعدات للدروز، الذين يمثلون أقوى وأشرس تهديد لسيطرة الجميل على لبنان. وخوفاً ألا يفهم (الجميل أبعاد ما يرمي إليه، فإن الرئيس حافظ الأسد، عزز القوات السورية، المرابطة في لبنان، بأن أوصل قواتها المدرعة إلى (1200) دبابة. كما أشار للإسرائيليين، بأنه لم يعد يبدي قلقاً فيما إذا تجدد القتال في لبنان، خاصة وأنه ضمن مظلة سوفياتية نشطة، في مثل هذه الحالات. وفعلاً ارتفع عدد الخبراء السوفيات في الجيش السوري إلى (5000)، وأقيمت قواعد جديدة لصواريخ سام – 5، البعيدة المدى، حول دمشق، يديرها جنود سوفيات يرتبطون بخطوط اتصالات مباشرة مع موسكو حتى إلى سهل البقاع، وصل ضباط سوفيات، وأخذو يدرسون المواقع.
باختصار، ارتد المشروع الأمريكي على صانعيه وبدلاً من إركاع حافظ الأسد، فإنه برز أكثر قوة، في الوقت الذي أخذت ملامح السلام الأمريكي تخبو وتتلاشى. أما اتفاق السلام الإسرائيلي اللبناني فإنه تحجم ثم أسقط.
كان السوريون أسرع، إذ دفعوا ببعض الفصائل لشن هجوم انتحاري على قاعدة المظليين الأمريكيين في خلده، فقتلوا (241) جندياً أمريكياً، إثر انفجار شاحنة مفخخة، وهي الطريقة التي استعملت للهجوم على السفارة الأمريكية في بيروت، في نيسان الماضي، وعلى الإسرائيليين في صور. كما حركوا جماعة أبو موسى للهجوم على عرفات ورجاله المتمركزين في طرابلس، حيث انتهت المعارك بإخراج عرفات من لبنان. وتم اعلان أن أمين الجميل لم يعد رئيساً للبنان، بقدر ما هو رئيس لحزب فاشستي، وتم إعطاء الأوامر لقصف بيروت وقصر بعبدا، حيث يقيم الرئيس اللبناني، وبعد أن أحكم حافظ الأسد قبضته على الجبل، طالب بسحب القوات الدولية متعددة الجنسيات من لبنان فوراً، وأمر بشن هجمات متوالية على القوات الأمريكية في مطار خلده.
وأصبح الامريكان الآن في وضع صعب. فإما الانسحاب من لبنان، أو القتال.. لما فشلت المفاوضات، حاولت واشنطن استعراض عضلاتها، عن طريق قصف المواقع السورية بالطائرات، أو بمدافع حاملة الطائرات (نیوجرسي)، التي وصلت قذائفها الثقيلة إلى أبعد المناطق في جبال الشوف، وحتى في الأراضي التي تحتلها القوات السورية. ولم تحقق أمریكا نتائج أفضل باستعمالها القوة. وفكرت إسرائيل وأمريكا، في فترة ما، بأن أفضل طريقة لتحقيق النصر، التدخل المسلح وإنزال أعداد كبيرة من قوات البلدين. ولكن خشي الطرفان السقوط في المستنقع اللبناني.
وفي شباط 1984 تشكل تحالف، وتحركت قوات عبر جبال الشوف نحو العاصمة بيروت، واحتلت بيروت الغربية، مما جعل قصر بعبدا تحت رحمتها، وحول أمين الجميل إلى أسير في القصر الجمهوري، تماماً كما تنبأ بذلك شارون، قبل سنة. أعادت جماعة أبو موسى فتح مراكز المنظمة في كورنيش المزرعة، وبدأ الفلسطينيون يعودون إلى المخيمات في قرية الدامور. كما تدفقت أعداد كبيرة جداً من اللاجئين إلى مخيماتهم في الجنوب اللبناني، وبدا وكأن الأوضاع في جنوب لبنان، عادت إلى نسخة طبق الأصلي عما كان عليه قبل الغزو. وتجددت المعارك من جديد في مختلف المواقع. كما أن السوريين قویت مراكزهم أكثر من ذي قبل.
بدت الصورة الآن، وكأن (600) إسرائيلي قتلوا و(250) أمريكي فقدوا حياتهم، في لبنان، لا لهدف، إلا لتعود الأوضاع في لبنان إلى سابق عهدها.
وانسحب المظليون الأمريكيون من خلده في شباط 1984، تماماً كما فعل الإسرائيليون، عندما انسحبوا من الشوف، قبل ستة شهور.