حقب وتسويات

تفقد اللحظة السياسية حرارتها وتصبح عبئاً على الجميع إذا لم يتم تداركها في المنظورات العامة للسياقات الموضوعية وآفاقها، وقراءة المشهد قراءة متروية وحاذقة:
1- في لعبة الحقب وصفقاتها وتسوياتها كم منا يرى ما قبل الحقبة النفطية وما بعدها، وموقع العرب فيها. وقد يفاجىء البعض إذا قلنا إن العالم على هذا المستوى من الصراع الدولي – الإقليمي شهد ثلاث حقب: حقبة القطن ومركزها مصر التي ازدهرت فيها هذه الصناعة بدعم شركات يورك البريطانية تعويضاً عن القطن الأمريكي خلال الحرب الأهلية.. وبدلاً من تستثمر مصر هذه الحقبة لقرع أبواب الرأسمالية العالمية والنهوض القومي، بددها الخديوي إسماعيل في فساده وفي مقاولات عقارية كبرى في بنايات القاهرة العملاقة.. وتكرر الأمر نفسه مع الحقبة النفطية في مراكزها المختلفة والتي تبددت بين الفساد وإرم ذات العماد العقارية.
وها نحن اليوم في الحقبة الثالثة، حقبة الغاز. ويلاحظ في كل هذه الحقب دخول الإمبريالية القائدة للنظام الرأسمالي عليها وتحويلها إلى صفقات سياسية لإدارة العالم كله وليس الشرق فقط، فمن صفقة الخديوي مع الإنجليز والفرنسيين إلى صفقة البارجة في نهاية الحرب الثانية إلى صفقة الحقبة الغازية الثالثة.
2- وفي المستوى الأعم لكل ذلك نظرية ماكندر سبيكمان ثم بريجنسكي حول الهارت لاند أو قلب العالم الأورواسيوي والصراع التاريخي بين الإمبراطورية البحرية (بريطانيا ثم أمريكا) وبين الإمبراطورية التركية (تركيا العثمانية ثم روسيا والآن الصين) حيث صارت خطوط التصدع في (الشرق الأوسط) أهم مجال حيوي لصراع الإمبراطوريات المذكورة. فنشأ على هامش ذلك تقسيم الإرث العثماني إلى دول وكيانات قطرية بضمانة الثكنة الصهيونية التي أعلنت دولة باسم (إسرائيل).
ومع احتدام الأزمة الرأسمالية العالمية بالتزامن مع صعود الصين وتجمع شنغهاي وطريق الحرير الجديد جرب الأمريكيون تطويق الإمبراطورية البرية الجديدة بشكلين من الحزام الأخضر (الإسلام السياسي) مرة باستخدام القوة الصلبة (الجهاد ضد الشيوعية في أفغانستان) وكانت الباكستان أداتهم الأساسية، ومرة باستخدام القوة الناعمة (الإسلام الليبرالي) عبر تركيا وكان من الطبيعي أن يجمعوا التكفيريين والعلمانيين في كأس واحدة من ثورة الناتو في ليبيا إلى الظاهرة التونسية ومجلس إسطنبول السوري.
3- وفي كل ذلك كان الشرط الموضوعي جاهزاً وهو إفلاس وانهيار الدولة القطرية تحت ضغط الفساد والاستبداد.
والأخطر هنا من فساد واستبداد الأنظمة وبما يسمح بتوظيف الحراك الشعبي لصالح فدراليات مذهبية تدور في فلك اسطنبول أو تل أبيب، هو أن الدولة القطرية لم تحول المجاميع القبلية والعشائرية والطائفية إلى مجتمعات مدنية، فالمجتمع المدني والدولة المدنية مجتمع قومي ولا يمكن أن يتشكل في النطاق القطري، لا باسم التبعية ولا باسم التحرر الوطني.
وهو ما يغذي الخراب ويحول الديمقراطية تحت السيطرة السلفية والمذهبية إلى أداة لتفكيك الدول وهدمها وليس استبدال الأنظمة الفاسدة البوليسية بأنظمة مدنية.
4- في ضوء ما سبق، ومقابل إدارة الأزمات وتدوير الزوايا والتغميس خارج الصحن، لا بديل عن المقاربات التالية:

  1. البحث عن تسويات تاريخية انتقالية لا تحول المعركة ضد السلطة إلى معركة لهدم الدولة برمتها، بل تسمح بمرحلة انتقالية تبدل نهجاً بنهج في إطار دولة موحدة مركزية.
  2. ربط المعركة من أجل الديمقراطية بالعدالة والتحرر الوطني والقومي والإعلاء من ثقافة المقاومة والانتماء القومي، فمعادلة الصراع الحالية (ديمقراطية أو استبداد) معادلة مضللة.
  3. مقابل استراتيجية التفكيك المعادية على مستوى الإقليم والأمة استعادة خطاب الوحدات الإقليمية: سوريا الكبرى، مسقط الكبرى، الصومال الكبرى، المغرب الكبير، واديل النيل، وادي الرافدين… إلخ.