المشروع الأميركي وحرب تشرين الثانية

في الإطلالة الأخيرة لقائد حزب الله السيد حسن نصر الله، ترى القراءة السياسية للخطاب أنّه إعادة التأكيد على أنّ دور المقاومة اللبنانية خاصّة، ومحور المقاومة عمومًا، هو في إسناد المقاومة الفلسطينيّة في غزّة ومشاغلة العدو دون الانزلاق إلى حرب مفتوحة، وأنّ المقاومة اللبنانية لن ترفع من مستوى التصعيد إلّا بمقدار ما يرفع العدو من مستوى التصعيد، وهذه المشاغلة بالغة الأهميّة في دعمها للمقاومة وليس المطلوب في هذه المرحلة ما هو أكثر من ذلك، ولكن هل سيبقى إيقاع المشاغلة في الشمال على هذه الدرجة أم أنّ مصلحة “إسرائيل” هي في رفع مستوى التصعيد وصولًا إلى الحرب المفتوحة؟ 

لا تملك دولة الاحتلال من خيار إلّا السير إلى الأمام في الحرب وبغضّ النظر عن كلفاتها، فهي أمام أحد خيارين أوّلهما الخيار المرّ والقاضي بمواصلتها الحرب دون رؤية واضحة لما بعدها أو بإمكانيه تحقيق الانتصار بها، وبغضّ النظر عن كلفاتها المرتفعة التي أرهقت مجتمعها المنقسم بشدّة على نفسه، وأصابت اقتصادها في الصميم خاصّة بعد الدخول اليمني المشاغل والاستراتيجي في البحر الأحمر، ومعنويات جيشها المنهارة وما أصابها على الصعيد العالمي قضائيًا وشعبيًا وسياسيًا، أو أنّها أمام الخيار الثاني الأكثر صعوبة ومرارة أي وقف الحرب والانسحاب الأمرّ الذي يعني الهزيمة والانزلاق في عمليّه متسارعة نحو فنائها.

يحاول الأميركي إنقاذها والحفاظ على هيبتها، في محاولاته لإنهاء الحرب وتحقيق بعض المكاسب لدولة الاحتلال ولو على قاعدة نصر جزئي محدود يضمن إطلاق سراح الأسرى الذين تحتجزهم المقاومة والذين ارتفع عددهم أوّل أمس بعد العملية الذكية للمقاومة التي أعلن عنها الملثّم أبو عبيدة، ويرفع عنها سوط العقوبات الدولية، التي قد تطال لاحقًا داعميها ومزوّديها بالسلاح، وذلك استعدادًا لمعركة تالية قد تأتي بعد سنوات يتمّ خلالها القضاء على المقاومة وتصفية المسألة الفلسطينية وهذا ما هدفت إليه زيارات مدير المخابرات المركزية الأميركيّة وليم بيرنز ومستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جاك سوليفان. 

محاولات واشنطن لإنقاذ دولة الاحتلال تأتي ضمن خطّة أميركيّة واسعة لإعادة تشكيل مشرقنا الذي أخذ شكله الحالي منذ قرن ونيف في اتفاقيات سايكس- بيكو ثمّ اتفاقية سان ريمو، ولعلّ المسألة المركزية ونقطة الانطلاق التي لا بدّ منها في الخطط الأميركيّة هي تصفية المسألة الفلسطينية والخلاص من صداعها وإقامة نظام إقليمي قائم على التطبيع، وتحالف إقليمي تكون “إسرائيل” فيه ذات دور قيادي وناظم وحاكم.

لا ترى واشنطن أنّ ذلك ممكن في ظل الحكومة “الإسرائيلية” الحالية ومن هنا يأتي الرهان الأميركيّ على شخصيّة “إسرائيلية” أخرى يبدو أنّها الوزير في حكومة الحرب الجنرال المتقاعد بيني جانس. وجانس هذا لا يختلف كثيرًا في الجوهر عن نتنياهو إن في موقفه من المقاومة في غزّة وضرورة تصفيتها أو في الرغبة بضمّ أجزاء واسعة من الضفّة الغربية، يريد “لإسرائيل” أن توسّع الاستيطان، ولا يختلف في توقه للخلاص من الصداع الذي تسبّبه المقاومة اللبنانية لـ”إسرائيل” عمومًا وللجليل الفلسطيني المحتل خصوصًا. 

تتطلّب الخطّة الأميركيّة قوّات عربيّة ودوليّة تنزع السلاح من المقاومة، وبذلك تبقيها بلا أظافر أو أنياب تمهيدًا لتصفيتها، وكما يتوهّم أصحاب التصوّر والخطّة إلى تدجينها، وبما يحفظ الأمن لسكّان غلاف غزّة ويمنع إمكانية إعادة سيناريو السابع من تشرين الأوّل الماضي.

لكن بعد الزلزال والطوفان الذي أحدثته صبيحة السابع من تشرين الأوّل فهل من الممكن لرجل واشنطن الجديد أن يعيد اللحمة للمجتمع “الإسرائيلي” الذي انكشفت وافتضحت عيوبه البنيوية أو تحقيق التفاهم بين العسكر والأمن والسياسة، وأن يعيد استنهاض الاقتصاد الذي تهالك؟ هل يستطيع قيادة السفينة نحو الخروج من العواصف غزّة تمهيدًا لمعركه قادمة؟

المعركة القادمة في نظر الأميركي و”الإسرائيلي” في مرحلة ما بعد نتنياهو ستكون بعد استكمال حلقات التطبيع مع مجموعة الدول العربيّة والإسلاميّة وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة، وهو الأمر الذي إن استطاعت حرب تشرين الثانية تأخيره ولكنّه ماضٍ في طريقه وليس له أن يتوقّف في ظلّ الأنظمة القائمة والحاكمة التي ترى أنّ بقاءها واستمراريتها مشروطان بالرضا الأميركي الذي يستلزم الدخول إليه من الباب “الإسرائيلي”.

الحرب لا زالت طويلة، ولا بد من اتّساعها خاصّة على جبهتَي لبنان والضفة الغربية.