مخاطر العبث بالديموغرافيا ومسألة النازحين

وعد بلفور وتنظيم هجرة اليهود وتوطينهم في فلسطين (الجزء الثاني)

ولما ظهرت المسألة اليهودية في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، وبدأ اضطهاد اليهود في أوروبا الشرقية، وترافق ذلك مع رفض دول أوروبا الغربية استقبالهم، شرعت الصهيونية بتسويق فكرة
هجرتهم الجماعية الى فلسطين، ونشرت شعار “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، مسوّقين فكرة أن فلسطين هي أرض فارغة ولا أحد يريدها واليهود سيأتون لتنميتها، كما فعل المهاجرون الأوروبيون في أميركا قبل بضعة قرون. وقدمت لهم بريطانيا وعد بلفور، وضمته لاحقاً مع اتفاقية سايكس بيكو الى مهام الانتداب البريطاني لفلسطين. فصار تنظيم هجرة مئات الآلاف من اليهود الى فلسطين، إضافة الى الادعاء بأنه تحقيق لخرافة الوعد الديني التي تسوقها الصهيونية، أصبح ينظر إليه كواجب من واجبات الإدارة الانتدابية، وكعمل لوجستي جبّار، والنجاح فيه هو نجاح لأهداف الانتداب الذي فرضه المنتصرون في الحرب العالمية الأولى في مؤتمر سان ريمو في 1921 وشرّعته عصبة الأمم لاحقاً وأصدرت صك الانتداب في 24 تموز 1922، حيث ورد في بعض مواده ما يلي:
“المادة الثانية: تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي وفقاً لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك وترقية مؤسسات الحكم الذاتي وتكون مسؤولة أيضاً عن صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بقطع النظر عن الجنس والدين.”
“المادة الرابعة: يُعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد على أن يكون ذلك خاضعاً دوماً لمراقبة الإدارة. يُعترف بالمنظمة الصهيونية كوكالة ملائمة مادامت الدولة المنتدبة ترى أن تأليفها ودستورها يجعلانها صالحة ولائقة لهذا الغرض ويترتب على المنظمة الصهيونية أن تتخذ ما يلزم من التدابير بعد استشارة حكومة صاحب الجلالة البريطانية للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن اليهودي.”
“المادة السادسة: على إدارة فلسطين مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالي الأخرى أن تسهّل هجرة اليهود في أحوال ملائمة وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة، حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية.”
“المادة السابعة: تتولى إدارة فلسطين مسؤولية سن قانون للجنسية ويجب أن يشتمل ذلك القانون على نصوص تسهّل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم.”
تدلّ هذه المواد على استسهال التعامل مع التغييرات الديموغرافية الكبرى. فقد اعتمدت إدارة الانتداب على المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية التابعة لها، لتشجيع اليهود الأوروبيين على الهجرة الى فلسطين. وفي المقابل، لم تسأل سلطة الانتداب أهل فلسطين حول قبولهم بهذه الهجرة، بل استعانت ببعض الحكام العرب لإخماد الاعتراضات والثورات التي قام بها أهل فلسطين في العشرينات والثلاثينات للاعتراض على علميات الهجرة والاستيطان، فيما المنظمة الصهيونية لم تعترف بوجود شعب في فلسطين. وقد ذكرت لجنة كينغ كراين في تقريرها عام 1919 أن “الصهيونيين الذين التقت بهم يتوقعون أن يُجلوا السكان غير اليهود من فلسطين بشراء الأراضي منهم، وأن جميع الموظفين الإنكليز الذين حادثتهم اللجنة يعتقدون أن البرنامج الصهيوني لا يمكن تنفيذه إلاّ بالقوة المسلحة”.
وذكرت المادة السادسة من صك الانتداب، المذكورة أعلاه، “حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية”، على اعتبار أن هذه الأراضي الأميرية والأراضي الموات هي أراضي مشاع لا أصحاب لها، كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، وأصبحت حكماً تحت تصرف إدارة الانتداب، التي يحق لها منحها لليهود بحسب صك الانتداب، دون سؤال أي أحد من أهل البلاد الأصليين. يضاف اليها الأراضي التي تشتريها الوكالة اليهودية، المدججة وقتها بالأموال الطائلة والعلاقات الدولية.
وتتمكن الحركة الصهيونية التي تنظّم المهاجرين وتؤطّرهم، من استلام زمام الأمور، بعدها تقوم بإقامة دولتها واحتلال القرى التي يسكنها أهل البلاد، وقتل وتهجير معظمهم، وهو ما حصل لاحقاً في الاربعينيات، قبل وخلال وبعد إعلان انتهاء الانتداب وقيام “دولة” العدو. وقد سوّق الغرب والصهيونية أن الفلسطينيين باعوا أرضهم في فلسطين، بينما الحقيقة الساطعة أن مجمل ما تم شراؤه من قبل الوكالة اليهودية لم يتعدّ نسبة ضئيلة من أرض فلسطين، فيما أكثر من ثلثي أراضي فلسطين كانت من الأراضي الأميرية والأراضي الموات والمشاعات التي قدمتها إدارة الانتداب البريطاني الى اليهود مجاناً، والباقي تم احتلاله بالقوة، وتهجير أصحابه، وترويعهم، وقتلهم. حيث لم يبقَ من أصل 700 ألف فلسطيني في 1948 سوى 160 الفاً في الأراضي التي احتلتها الميليشيات اليهودية وقتها.
وقد حاول البريطانيون في البدايات، سواء في وعد بلفور، أو صك الانتداب، طمأنة السكان الفلسطينيين، أن الهدف هو انشاء وطن قومي لليهود كي يعيشوا فيه بأمان، مع أولاد عمهم العرب في فلسطين، وليس الهدف هو انشاء دولة يهودية تكون لليهود وحدهم، وتعمد الى طرد أبناء الأرض. ولذلك نص صك الانتداب على تسهيل إعطاء الجنسية الفلسطينية للمهاجرين اليهود، وبقيت العملة وتسمية الإدارة تحت الانتداب هي فلسطينية، مع اعتماد العربية والعبرية والإنكليزية كلغات رسمية، وإعطاء كل طائفة حق التعليم بالطريقة التي تراها مناسبة.
وقد توقع البريطانيون، وحتى قادة الحركة الصهيونية، الذين كانوا يتعاملون مع السكان الأصليين على أنهم عرب أقرب الى البدو الرحل، أن ينتقل هؤلاء لاحقاً الى الدول العربية المجاورة الواسعة، ويصبحوا مواطنين فيها، وبقيت عمليات الهجرة اليهودية مستمرة الى ما بعد قيام كيان العدو، وكانت من أكبر موجاتها لاحقاً هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي بعد سقوطه في مطلع التسعينيات.
ما لم يستطع الغرب والصهيونيون هضمه واستيعابه حتى الآن، ولذلك يكرره الغرب مع السوريين، هو أن سكان فلسطين، لم يكونوا بدواً رحّل، ولم يقبلوا تهجيرهم وتعويضهم عن أراضيهم وتاريخهم وتراثهم وذكرياتهم في فلسطين، بالسهولة التي توقعها قادة الغرب والصهيونية. وها هم ما زالوا يقاتلون ويناضلون حتى اليوم، بعد ثلاثة ارباع قرن من النكبة، دفاعاً عن حقهم القومي وليس فقط حقوقهم الفردية والعائلية، هذا العامل القومي والاجتماعي ما زال غير مفهوم أو غير ذي قيمة على ما يبدو عند المخططين الغربيين والأمميين اليوم، الذين ما زالوا يخططون للعبث بالديموغرافيا بهذه الطريقة الخطرة والاستبدادية.
اليوم، يكرر الغرب وما يسمى المجتمع الدولي نموذجاً مماثلاً مع النازحين السوريين وحتى العراقيين، كأنه لم يتعلّم شيئاً من المأساة الفلسطينية. كما حاول طرحها في لبنان مع بداية الحرب، يوم طرح الأميركي نقل المسيحيين الى الغرب، كمقدمة لتوطين الفلسطينيين في لبنان وإراحة المشروع اليهودي منهم. الفرق أنه في فلسطين، كان المهاجرون اليهود مدفوعين بمشروع سياسي صهيوني يرتكز الى الدين والى الدعم الدولي والتمويل الطائل من المنظمة الصهيونية وداعميها في العالم.
بينما النازحون السوريون ليس لديهم دافع ديني، ولا منظمة تشبه الصهيونية لتنظيمهم وتأطيرهم في وطن موعود. بل هم تهجّروا قسراً بفعل الحروب في مدنهم وقراهم، أو شُجّعوا على الرحيل المؤقت والدعم الأممي ريثما يحين وقت العودة بعد السقوط السريع الموعود للنظام. كما أن معظمهم وعدوا بتوطينهم في أوروبا والدول المتطورة، وبتمويل نزوحهم، كأفراد وعائلات، دون مشروع سياسي يضمن حقوقهم وينظم هجرتهم وحياتهم وتأطيرهم في أماكن النزوح. وانتهى الأمر بمعظمهم في دول مجاورة، كلبنان والأردن وتركيا، ممنوعون من الهجرة الى أوروبا أو دول العالم المتطور، وممنوعون من حقوق العمل والحياة الكريمة في هذه الكيانات، التي لديها الكثير من المشكلات المحلية الطائفية والمذهبية والاقتصادية، والتي بدأت تتحول فيها مشاعر التعاطف الأوّلي معهم الذي ظهر في بداية الأزمة لأسباب سياسية أو طائفية وقتها اكثر منها إنسانية، الى مشاعر كراهية عنصرية ضدهم، خاصة بعد أن بدأ يشعر مواطنو هذه الدول المضيفة بثقل أزمة النزوح وتأثيراتها السلبية على اقتصاديا تهم وعلى مستقبل تركيبتهم الاجتماعية والسياسية.
في تركيا، بدأت الحكومة التركية، بتشجيع من الروس، استدارة كبرى في السياسة التركية تجاه سورية ومسألة النزوح، قد تؤدي في النهاية الى عودة العلاقات الطبيعية مع الحكومة السورية، وانسحاب الجيش التركي المحتل لمناطق شمال الشام، وعودة النازحين، مع أن هناك الكثير من التفاصيل التي يجب معالجتها قبل الوصول الى هذه النتيجة، ليس آخرها رفض الحكومة السورية لإعادة النازحين الى منطقة عازلة على الحدود تستخدمها تركيا كحصان طروادة لها في الداخل السوري، بل تريدهم أن يعودوا الى مناطقهم الأصلية، أو الى مراكز إيواء مؤقتة الى حين تصبح عودتهم الى المناطق المدمرة ممكنة. ولا بد من أخذ الرفض الأميركي بعين الاعتبار ايضاً.
في الأردن، الحكومة ما زالت لا تجرؤ على طرح هكذا مبادرات نتيجة الضغط الأميركي على الحكم هناك، ونتيجة تعقّد المسألة وتداخلها مع مسألة النزوح الفلسطيني والعراقي، والتي تهدد بقاء الأردن ككيان بشكله الحالي، والخوف من أن تطرح حلول الوطن البديل للمسألة الفلسطينية على حسابه.
أما في لبنان، المبتلى أصلاً بطبقة سياسية فاسدة وتابعة وفاقدة للمواصفات القيادية والسيادية المطلوبة، وفي ظل نظامه الحالي العاجز عن حكم ذاته وإصلاح بنيته دون تدخل خارجي مباشر، فالمسألة معقدة أكثر، خاصة وأن طرح توطين مليوني نازح، معظمهم من لون طائفي معين، يؤدي الى تغيير جذري في التركيبة السكانية والديموغرافية في البلاد التي لا يتعدّى سكانها الملايين الخمسة. وهذا يؤدي مع الوقت، في ظل النظام الطائفي، الى مطالبة هؤلاء المواطنين المفترضين الجدد، بحقوقهم الطائفية والسياسية في مرحلة مقبلة، مما يحتّم نسف النظام السياسي القائم، وانتاج نظام جديد لا يمكن التنبؤ به حالياً.
الخلاصة أن الغرب، المستسهل للعبث بالديموغرافيا في منطقتنا، لم يأخذ بعين الاعتبار مصالح وطموحات وتوقعات وأحلام لا الطرف النازح ولا الأطراف المضيفة، ويريد أن يفرض حلولاً بهذا الحجم، تحت عناوين إنسانية وديمقراطية برّاقة، وينظر الى المسألة كأنها عمليات لوجستية بحتة، فيما هي لعب ببراميل بارود تؤدي الى سلسلة غير متناهية من الحروب والأحقاد والأزمات والكلف الباهظة. ونجاحها غير مضمون، بدليل بقاء مسألة فلسطين حيّة في نفوس من تبقى من أبنائها على كامل جغرافية فلسطين، وأبنائها في مخيمات الشتات، وحتى القلة التي تم توطينها في الغرب، برغم قرن من الترغيب والتهديد والوعيد لتقبّل الهجرات اليهودية وعمليات الاستيطان والتهجير، حيث حلّت مشكلة اليهود في أوروبا على حساب حق شعبنا في تقرير مصيره وفي الحياة الحرة الكريمة في بلاده التاريخية.

فيما لا حل لهذه المسائل، الا بالكف عن العبث والمقامرة بالديموغرافيا والمراهنة على عمليات التوطين والإحلال والتهجير. الحل هو بنزول الغرب وداعميه المحليين عن الشجرة التي تسلقوها، واعتماد أقرب الطرق لحل مسائل النزوح، وهي تشجيع إعادة هؤلاء النازحين الى بلادهم، ودعم وتمويل هذه العودة، والمساعدة على الحلول السياسية التي تسهل هذه العودة وتضمن عدم التهجير مجدداً، واستبعاد خيارات الحروب والاقتتال الداخلي لفترات طويلة قادمة.
وهذا ما يسهم أيضاً في حل مشكلات حكومات الدول المضيفة، وتبديد مخاوفها وهواجسها من فرض عمليات توطين النازحين فيها، وتغيير شكل وطبيعة أنظمتها، خاصة في دول حساسة مثل لبنان والأردن. وهذا يزيل العوائق والتهديدات الغربية أمام إعادة تطبيع العلاقات بين هذه الحكومات ودمشق، والبدء بالتفكير والتخطيط والتنفيذ لمشاريع مشتركة ومستقبل مشترك، على طريق التعاون والتكامل الاقتصادي والاجتماعي.