سعادة وفلسفة التاريخ (الحلقة الثانية)

سعادة وفلسفة التاريخ (الحلقة الثانية)

“في المقدمة الإضافية لحروب قرطاجة ورومية وظهور ها نيبال وأسدر وبال ، القائدين الحربيين الفينيقيين الخالدين، تجد فقرة هذه ترجمتها الحرفية: حين أعلنت الحرب بين قرطجنة ورومية كانت الأولى أكبر وأغنى من رومية في تماثيلها ومراكبها وكنوزها ، بيد أنّ شعبها الذي هو من عنصر أسيوي سامي كان أحط في التمدن من الرومانيين الذين تثقّفوا في جوار اليونانيين وعرفوا فنونهم وثقافتهم ، محسنين الفيلق الحربي بتقسيمه فيالق وشراذم”.
يعلّق سعاده على هذه الفقرة: “يجد الباحث في هذه الفقرة الصغيرة نوعا من أنواع الفلسفة المغرضة تظهر فيه روح رديئة سيئة القصد، فضلا عن أنّ الرأي الذي تضمنّه لا علاقة له بالتاريخ من حيث هو علم. فالرأي ما كان قطّ علما. والمفهوم من كلام المؤرخ المتقدم أنّ القارة (آسيا)، والعنصر(السامي) هما الفارق في الارتقاء المدني، وإنّ كلّ شعب آسيوي سامي هو، طبعا أحطّ من كلّ شعب آخر أوروبي هندي آري، وأنّ تقسيم الفيلق الحربي البري هو مقياس الرقيّ الوحيد. ونحن إذا سلّمنا جدلا بهذه النظرية، فإنّنا لا بدّ نحار في تعليل كيف أنّ الرومانيين انكسروا شرّ كسرة في أرقى مظاهرهم المدنية (الجيش) أمام قوات هنيبال. وإذا كان السرّ في القارة والعنصر فلماذا كان النبوغ الفينيقي أعظم من كلّ نبوغ روماني، في ذلك العهد؟ ولماذا ينسى المؤرخ المشار إليه أنّ الخوف من النبوغ الفينيقي الآسيوي حمل الرومانيين على حرق قرطجنة بعد الخطب الرنانة التي كان (كآتون) يلقيها في مجلس شيوخ رومية؟”

أفتح “أنا” الآن مزدوجين، وأسأل لماذا لم يدخل ها نيبال روما؟ وما السبب الأساسي في خسارته الحرب؟ على السؤال الأول أجيب: أنّ ها نيبال كان قادرا على احتلال روما، ولكنه تراجع عن ذلك، خوفا من قيام جيشه، ومعظمه من المرتزقة، على تدمير المدينة وتخريب تراثها التاريخي –الحضاري. أمّا عن خسارته الحرب فتعود، بشكل أساسي، إلى موقف مجلس شيوخ قرطاجة، الذي تمنّع من إرسال المدد إليه، خوفا من انتصاره، وعودته قويا إلى بلاده، وتجريد “اسياد” قرطاجة وتجارها من مراكزهم ونفوذهم وامتيازاتهم.
ينهي سعاده مقالته “علم التاريخ وسلام العالم”، باستنتاج يليه “خلاصة واقتراح” لما ورد فيها؛
يستنتج سعاده من نقده لهذا الكتاب: بأنّه يظهر للمطالع له، بكلّ جلاء، نتيجة وجود النزعات في التاريخ، فالتلاميذ الذين يتعلمون التاريخ العام في المؤلف المذكور يخرجون إلى الحياة العملية رجالا ونساء حاملين في قلوبهم الكره والاحتقار للشعوب الأسيوية إجمالا وللعنصر السامي والفينيقيين والعرب بوجه خاص، والغريب في الأمر أنّ التاريخ الذي استشهدت به وضع لشعب يترك 1
السوريين فيه ذرية كبيرة قد أصبحت من صلبه، والسوريون هم خلفاء الفينيقيين وشركاء العرب “. ويؤكد سعاده أنّ الشروح التاريخية التي وردت في الكتاب المذكور ليست حقائق علميّة، وهذا يفضح عظم الجريمة التي يرتكبها المؤرخون، بقصد أو بغير قصد، بتشويه علم التاريخ بما يحشونه من نظريات فلسفية، ليست في الأكثر، في جانب الخير العام وسلام العالم ولا في جانب الحقيقة والحقّ.
ينهي سعاده هذا المقالة بــ خلاصة واقتراح؛ أمّا الخلاصة فيشدّد فيها على رفضه أن “نمزج الفلسفة التاريخية بالتاريخ ونطلق على هذا لقب علم ثابت خالص دون أن نعرّض معارفنا للتشويش الذي يحول دون بلوغنا الغاية التي نتوخاها “. فضلا عن أنّ ذلك الأمر، أي مزج الفلسفة التاريخية بالتاريخ، له نتائج خطيرة مدمّرة على صعيد الكيانين العلمي والإنساني، وعلى المساعي التي يضحي من أجلها المفكرون لصيانة السلام العالمي، في هذا السياق يقول سعاده: “إنّنا أمام تجاه قضية خطيرة تهدّد كياننا العلمي بالفشل، فضلا عن أنّها تهدّد كياننا الإنساني بالبغض والنفور وايغار الصدور وسائر العوامل التي تحمل أخيرا على إثارة الحروب وصدّ المساعي والجهود التي يبذلها المفكرون الإنسانيون في سبيل تحقيق السلام العام “.
ويختم سعاده مقالة “علم التاريخ وسلام العالم” بدعوة المعاهد السورية المتخصصة إلى عقد مؤتمر عام، مهمته توحيد علم التاريخ العام المجرّد من تأثيرات التواريخ اللاعلمية، ويعتبر ذلك أكثر فائدة من جميع النظريات والمؤتمرات والمعاهدات التي تعلن من أجل انقاذ العالم من الحروب وويلاتها. ويبني سعاده دعوته بالاقتراح الآتي:
“أقترح على المعاهد العلميّة السورية إرسال نداء حار إلى معاهد العلم في العالم كلّها تدعوها فيه إلى عقد مؤتمر عام يقوم بمهمة التحقيق في مؤلفات التاريخ المعمول عليها في التدريس عند جميع الأمم، وتوحيد علم التاريخ العام، ونشر المعلومات التي تبطل تأثير التواريخ الخارجة عن دائرة العلم.
إنّ تجريد التاريخ من النزعات والنظريات الفلسفية يأتي بفائدة لا تأتي بها جميع المؤتمرات التي عقدت، والتي ستعقد لتحديد السلاح. ولا جميع المعاهدات التي تعلن إبطال الحرب “.
ويؤكد سعاده:” يقينا أنّ سلام العالم يتوقف على تنزيه معارفنا فيما يتعلق بأنفسنا وجيراننا والبعيدين عنّا كثيرا، مما يتوقف على المؤتمرات والمعاهدات السياسية “.
تؤكد هذه المقالة، التي كتبها سعاده قبل تسعين عاما، عن اهتمامه المبكر بالمشاكل والأزمات والحروب التي تعاني منها البشرية، وتسبّب لها الويلات والمآسي والخراب والدمار، والتي في معظمها نتيجة النظريات الفلسفية التاريخية المغرضة، وهذا ما يجعل من سعاده رائدا من رواد المدرسة العلمية المتخصصة في إعادة قراءة التاريخ وفلسفته، ونقده، وإعادة صناعته بما يتلاءم ومبادئ الحقّ والخير والسلام للإنسانية قاطبة. فـ سعاده في هذه المقالة هو العالم الفيلسوف الباحث المتبحر في العلوم من أجل خدمة السلام الإنساني.
يــتــبــع

الهوامش
سعادة: نظرة سعاده إلى الإنسان، المحاضرات العشر، ط3، ص 142 .
سعادة: نشوء الأمم، ط1951، ص177 .
سعاده: الصراع الفكري في الأدب السوري،ط 3، ص41