ســـعـــادة وفـــلـــســـفـــة الـــتـــاريـــخ (الحلقة الأولى)

ســـعـــادة وفـــلـــســـفـــة الـــتـــاريـــخ (الحلقة الأولى)

هل تضمّنت نظرة سعادة الفلسفية الشاملة للحياة والكون والفن، بحثا نظريا مستقلا، لـ فلسفته التاريخية؟
وضع سعادة مبكرا، في مطلع الثلاثينيات أسس نظريته القومية الاجتماعية في فلسفة التاريخ، موزّعة في العديد من كتاباته، من بينها: مقالة: “علم التاريخ وسلام العالم”، ومحاضرة: “الاتحاد العملي في حياة الأمم”، وفي خلاصة الفصل الثالث من نشؤ الأمم: “الأرض وجغرافيتها”. إضافة إلى كتابات أخرى متفرّقة، من بينها: تأملات في الثورة الفرنسية، معركة ميسلون والحروب الفينيقية.
في هذه الدراسة المبدئية، نحاول، بعد التحليل، استخلاص الخطوط العامة المؤسسة لنظرية سعاده في “فلسفة التاريخ”.

أولا: مقالة “علم التاريخ وسلام العالم”،
سعاده أولى، من خلال نظرته الفلسفية الشاملة إلى الحياة والكون والفن، علم التاريخ وفلسفته، اهتماما بالغا ومبكرا، إذ تعود أولى مقالاته “علم التاريخ وسلام العالم” إلى العام 1931 (1).
رأى سعاده في هذه المقالة أنّ “التاريخ المملوء بالنزعات القومية والعنصرية والإقليمية” هو “العقبة الكأداء” التي تعترض سبيل “الجهود العظيمة التي تبذل لتحقيق فكرة الطمأنينة والسلام العالميين والمساواة البشرية في الأغراض الإنسانية السامية”. وعزا نصف ويلات البشرية إلى سيطرة هذه النزعات على التواريخ الموضوعة بين أيدي الناس، إلى جانب حشو التواريخ بالفلسفات المغرضة والشروح الموضوعة عمدا لمقاصد معينة. واعتقد “أنّ شقّة البعد بين الشرق والغرب قد وسعّها كثيرا خلو الشرق من التواريخ المشبعة بالنزعات المشار إليها “. ووجد سعاده أنّ الحلّ لهذه المشكلة التي يعاني منها العالم هو في تجريد التاريخ من هذه النزعات منتقدا السياسيين المتكسبين، فكتب:” أريد في هذه المناسبة أن أذهب مذهبا جريئا قد يخفّف عن الاقتصاديين بعض ما يعانون، ولا يتفق بوجه من الوجوه مع حلول السياسيين المكتسبين، وهو أنّ تجريد التاريخ من النزعات والفلسفات المملوء بها يغني عن ألف مؤتمر لتحديد السلاح، وألف ألف معاهدة لمنع الحرب”. توصل سعاده إلى هذا المذهب الجديد، المشار إليه عن طريق الاستقصاءات العديدة والبحث في أمرين هامين؛ الأول هو في أساليب إعداد التاريخ للمدارس وطرق تعليمه، والثاني هو التواريخ الموضوعة للرأي العام. وكشف سعاده أنّ “الروح المغرضة” في التأريخ وفلسفته لم تقتصر على عداء المؤرخين الغربيين لكلّ ما هو شرقيّ، بل تجاوز الأمر إلى تشويه الحقائق، فيما ما بين الدول الغربية- الأوروبية نفسها، كما انتقلت هذه العدوى إلى الأميركيتين :”ولم يقف الكثيرون من مؤرخي الغرب عند هذا الحدّ من تشويه الحقائق ، بل قاموا بتشويه الحقائق التي ليس لها علاقة بالشرق”، وعلى أساس هذه المقولة يذكّر سعاده بالعديد من هذه الأمثلة، ومنها عدم الثقة والركون إلى التواريخ التي دوّنها المؤرخون الألمان عن الفرنسيين، والعكس هو الصحيح :” إذ ليس باستطاعتك، مثلا، أن تثق بتاريخ وضعه مؤرخ فرنسي عن إلمانيا، أو بتاريخ وضعه إلماني عن فرنسا، بل ليس من الحكمة في شيء أن تثق بكل ما يقوله مؤرخ غربي عن بلاده” ( 2 ) .
ومن بين الأمثلة التي يوردها سعاده، عن تشويه التاريح المتبادل بالروح المغرضة الحاقدة بين فرنسا وإلمانيا، ما أرّخه بعض العلماء، فقد :”.. ظلّ الاعتقاد بالسلالة القومية وسيلة للاستغلال حتى في الكتب العلمية، فإنّ بين الذين علّلوا أسباب الحرب بين فرنسا وإلمانيا، عددا من السياسيين والعلماء البارزين، قالوا بإنّ النزاع إنّما هو خصومة طبيعية بين السلالة الجلالقية أو اللاتينية العالية والسلالة الجرمانية الوضيعة. وإنّ من بين الكتب المدرسية الموضوعة بعد الحرب الكبرى(1914-1918) كتابا الّفه عالمان بنفسية الأحداث بلجيان، أحدهما مــركــه (Mirket )، وهو رئيس مدرسة، والآخر برغميني (Pergameni)، وهو أستاذ جامعة تجد فيه :” يظهر أنّ الحرب قد برهنت على أنّ للألمان جميعا ميلا إلى الشرّ ناشئا عن غرائز سلالية شاذة، كاستعمال القوّة العضلية، الخبث الفطري، القسوة وغريزة السرقة والسلب والقتل ، وإنكار الجميل مهما كان شريفا، نسيان المعروف، عصبية طائشة مسببة عن حسدهم الأمم الأخرى وكرههم لها، طمع متوارث غير طبيعي إلى التفوّق العالمي، خلو تام من كرم الأخلاق، العجزعن تقدير بطولات أضدادهم وإنكارهم أنفسهم .فإنّهم قد جاؤوا ببرهان قاطع على أنّ من خلال سلالتهم الرياء والعبودية والمكر، وأنّ من غرائزهم التي لا سبيل إلى كبح جماحها القسوة والشرّ، وأنّه ليس لهم غرائز إنسانية، لا فكرة عن الحقّ والعدل، ولا فهم للشرف ولا شعور بالفكاهة، وقد حاز هذا الكتاب سنة 1920 جائزة من المجمع العلمي البلجي (البلجيكي) الملوكي” (3).
الكتاب المذكور ليس كتابا عاديا للإستهلاك المؤقت العابر، بل هو كتاب مدرسي، مخصّص لتثقيف الأجيال الجديدة وتوجيهها وصياغة “مثلها العليا “في الحياة. والمؤلف ليس كاتبا عاديا، بل “مؤرخان” متخصصان في التربية والتأريخ، وهما رئيس مدرسة وأستاذ جامعي. أضف إليه أنّ الكتاب طُبع خمس مرات متتالية وحاز على جائزة من أعلى مرجع علمي في البلاد، وهذا دليل على توسيع دائرة انتشاره وتعميمه، وحيازته على الموافقة الرسمية من أعلى مرجع علمي. وخطورته هو في نزعته العنصرية، التي تجرّد شعبا بكامله من إنسانيته: “يظهر أنّ الحرب قد برهنت على أنّ للألمان جميعا ميلا إلى الشرّ ناشئا عن غرائز سلالية شاذة… وأنّه ليس لهم غرائز إنسانية، لا فكرة عن الحقّ والعدل، ولا فهم للشرف ولا شعور بالفكاهة “.
سعاده الذي دعا إلى تجريد التاريخ من الفلسفات المغرضة، المشوّهة الحاقدة، أرسى في المقابل نظريته الإصلاحية في فلسفة التاريخ، يقول سعاده: “نظريتي في أنّ الفلسفة المغرضة كانت ولا تزال آفة التاريخ والعقبة التي تعترض سبيل التفاهم البشري”. وتعطّل فكرة الطمأنينة والسلام العالميين والمساواة البشرية في الأغراض الإنسانية السامية.
وكثيرة هي الأمثلة التي تؤكد ما ذهب إليه سعاده في نظريته:” من ذلك تاريخ كلّ صدام بين الغرب والشرق بأنّه صدام بين المدنية والهمجية، وتعريف الأمم الآسيوية بانّها منحطة متوحشة …”
من جهّة أخرى سعاده استغرب بشدّة أن يجد “نفس الروح المغرضة في التواريخ الأوروبية قد هاجرت إلى الأميركيتين”، وبنفس الأسلوب الأوروبي العتيق الذي يظهر أحيانا بصورة أكثر سماجة منه، وهو:” لا يصلح لإعداد سلام العالم ومستقبل سعادة البشرية “. حيث إنّه لم يتحرّر “من عبودية الأغراض الضيقة النطاق والمستعدة لإقرار الحقائق العلمية كما هي بدون تشويهها بفلسفة النزعات المتضاربة “.
ويضرب سعاده مثلا، عمّا تقدم، ما تشهده البرازيل، التي وصلها للمرّة الأولى في مطلع شباط من العام 1921، حيث تشاء الصدف أن تدعوه “دائرة المعارف القومية البرازيلية ” وتنتخبه “لعضوية بعض اللجان الاختصاصية الفاحصة”، حيث اطلع من خلال مهمته على بعض الكتب المخصصة لتدريس التاريخ العام، الذي أطلق سعاده على أسلوبه التعليمي لقب :” الأسلوب المسمّم العقول”، وعليه يورد سعاده، مثلا، عن إحدى تلك الكتب التعليمية لمادة التاريخ العام، ناقدا مضمونه وأسلوبه العدائي اللاعلمي، مبينا فساده من الناحيتين الفلسفية والمنطقية .
يتوقف سعاده عند أحد كتب تدريس التاريخ العام وهو الذي اطلع على العديد منها أثناء قيامه بمهمته في “دائرة المعارف القومية البرازيلية”، ويخلص إلى القول في توصيفه للكتاب الذي لم يذكر اسمه ولا اسم مؤلفه: “بين كتب التاريخ العام المدرسية في البرازيل، نال واضعه شهرة واسعة في تلك البلاد المترامية الأطراف وحاز مكانة عالية بين كبار مؤرخي البرازيل، وأدباءها، والكتاب المذكور هو أحد الكتب المعمول عليها في التدريس “. مع الملاحظة أنّ هذا الكتاب طُبع للمرّة الخامسة عام 1925. وهذا دليل واضح على أهمية هذا الكتاب في مضمونه التعليمي لتعبئة الأجيال الجديدة في البرازيل بــ “الأسلوب المسمّم للعقول”.
لم يتطرق سعاده في عرضه لمحتويات الكتاب ونقده لبعض آرائه، ما ذهب إليه الباحث من شروح إضافية للحقائق التاريخية الواردة فيه، لفسادها من الوجهتين الفلسفية والمنطقية. واكتفى بإيراد “شاهدين يعزّز الواحد منهما الآخر تعزيزا كبيرا”؛ الأول، وهو الأهم، يتعلق بما ورد في الكتاب عن حروب قرطجنة ورومية، وجاء فيه

يتبع: