منذ أكثر من قرن، في عام 1913 تحديداً، كتب الفيلسوف الأميركي- الإسباني، جورج سانتايانا:
“عندما تتوغل الفوضى، وإلى حدّ كبير في الكينونة الأخلاقية للأمم، لا يمكن أن يُتوقع منها أن تنتج رجالاً عظماء. لا يحتاج الإنسان العظيم أن يكون فاضلاً، ولا أن تكون آراؤه على صواب، ولكن يجب أن يمتلك عقلاً راسخاً، ويكون صاحب شخصية مميزة ومستنيرة. وإذا أراد أن يسيطر على الأمور، فيجب أن يكون هناك في داخله شيء يسيطر عليه. نشعر بعظمته لأن بمقدوره أن يشرح ويعبّر عن أمر كامن في البقية منّا، ولكن كنا في درجة عالية من الخمول لنتمكّن من النطق نتيجة أعباء ناجمة عن الجسد والظروف”.(1)
منذ بداية وعيه السياسي في عام 1920، كانت صورة الذات لدى أنطون سعاده تتوافق بشكل وثيق مع هذا الوصف لسانتايانا. بعد أن عاش فظائع المجاعة الكبرى في الحرب العالمية الأولى وشهد تقطيع أوصال أمّته (سورية) إلى دول هشّة تافهة وفق مخططات استعمارية مسبقة التصاميم، تطوّر لديه ثقة تامة بنفسه ومؤهلاته وبقدرته على القيام بأعباء نهضة تاريخية كبرى، وبمجرد أن اكتملت هذه الثقة وترسخت تحولت وبسرعة فائقة الى قوة دافعة حتى هيمنت على حياته كلها. إن القيام بشيء ما بشأن «المعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق إلى ضيق»، كما كتب لاحقاً، لن يصبح هوسَه مدى الحياة فحسب، بل سيؤدي في النهاية إلى استشهاده.
تابع سعاده سعيه بأمانة تامة وصادقة ونبذ، منذ سن مبكرة جداً، الانانية الفردية التي أفرزتها الحياة المادية وانطلق لا يلوي على أي شيء ما عدا قوة عقله وحماسه الوطني، وذلك من أجل إعادة تعريف وتوطيد القضية القومية في سورية من جذورها. كانت المهمة شاقة، وكانت المسؤولية التاريخية هائلة، لكن سعاده، الشاب وصاحب الخيال، كان مصمماً على أنه يمكنه القيام بذلك وأنه يجب القيام به. وحتى يومنا هذا، لا يزال معظم الناس يستغربون كيف لهذه الأفكار أن تجول في فكر سعاده نظراً إلى ضعف إمكانياته المادية ومقدرة القوى المحتشدة ضده. في الواقع، لم يكن لدى سعاده أي شيء يذكر. فقد كان: 1- مبتدئاً في السياسة بكل معنى الكلمة، 2- شاباً مهاجراً دون أية خبرة سابقة في الشؤون العامة، 3- منحدرا من عائلة متوسطة لا تتمتع بأي قاعدة سياسية تذكر، 4- صحافياً حديثاً يعتمد بشكل كامل على والده ويفتقر إلى أية موارد أو سلطة لتحقيق طموح شخصي، ناهيك عن طموح قومي. أمّا إذا كان لدى سعاده يومها معرفة بهذه المعوقات، فهو أمر ثانوي الآن، فقد تابع سيره ليصبح، ليس كاتباً غزير الإنتاج فحسب، بل «مفكراً عملياً» لديه القدرة على تطوير وتنفيذ الأفكار المبتكرة، والحلول أيضاً.
في الواقع، إن لقب «المفكر العملي» هو التسمية التي تصف سعاده بدقة، إذ لم يكن ثمة شيء آخر يفوق إيمانه الراسخ بقوة الأفكار والقيادة الجيدة أكثر من الأهمية التي كان يعلّقها على الشأن العملي. وكان سعاده، وهو رجل الأفعال الذي شكّل فكره الفلسفي أساساً لمشاريعه الاجتماعية والقومية، يشدد باستمرار على فضائل النضال والتعاون والعمل الجاد. لقد كان مؤمناً حقيقياً بالوحدة بين النظرية والتطبيق وفي دور النضال كعنصر فاعل في تحقيق الوعي الذاتي وفي دفع التاريخ نحو الأمام. وبهذا المعنى، تكمن خصوصية عقيدته القومية الاجتماعية في كونها تقدِّم تحليلاً لمساوئ النظام القائم وحلولاً نظرية وبرنامجاً سياسياً للإطاحة بذلك النظام في الوقت نفسه. إن النظام العلمي والفلسفي، من جهة، وسياسة الفعل المباشر، من جهة أخرى، هما عنصران متميزان ولكنهما ضروريان في نظرته الشاملة إلى الحياة.
الجذور التاريخية والمنطقية لهذه النظرة تكمن في انهيار “التيار القومي السوري” بعد الحرب العالمية الأولى. كان إهدار حقوق سورية القومية في «مؤتمرات السلام» التي عُقدت بعد الحرب، واللامبالاة والجمود لدى الشعب السوري، والنهج الفوضوي لممثليه على طاولة المفاوضات، كلها أمور جعلت سعاده يقتنع بأنه من أجل أن تتحقق القضية القومية في سورية يجب أن تأتي، أولاً، مجموعة جديدة من القيم والمواقف، لدعمها واستدامتها وتعزيزها. ويمكن تلخيص ما كان يجول في ذهنه على النحو التالي:
أ- أن يتم تدريب الشعب السوري على تبنّي ظاهرة الوعي القومي بكل الحماسة والروح التي تتحلّى بها، بما في ذلك خلق روح القومية فيأذهانه وإقامة فكرة الأمة كحقيقة حياة لا مفرّ منها.
ب- أن عقدة الدونية والإذلال التي لبست السوريين نتيجة الاستعمار الطويل والاحتلال الأجنبي يجب أن تفسح المجال لشعور جديد بالفخرواحترام الذات الموروث من تراث الأمة وتاريخها العريق.
ج- يجب أن يتعلم السوريون أن يكرسوا أفكارهم وكلماتهم وأفعالهم ليس فقط لأنفسهم كأفراد وإنما لأنفسهم كمواطنين ينتمون إلى الأمة.
د- إن مهمة بناء الدولة السورية تنطوي على مصاعب ومعاناة لا بد من اختبارها من أجل تعزيز شجاعة السوريين، ذلك أن التضحيات التيتختبرها الشعوب تقوّي روابط الوحدة فيما بينها ومن شعورها بالاستقلال.
ه- أنه يجب تحريك الناس من جمودهم بسبب الخنوع واللامبالاة وتدريبهم على القيام بالواجبات بروح التضحية والبطولة.
وبسبب رفضه المؤسسات القائمة لعدم كفاءتها، قام سعاده بإنشاء الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه بمفرده في عام 1932، ونظّمه بالاتساق مع البنية الأساسية والشروط الموضوعية للإمساك بالقضية القومية في جميع جوانبها وسماتها. وقد كتب أحد المراقبين أن الحزب السوري القومي الاجتماعي كان «الحزب الأول في لبنان، بل في العالم العربي بأسره، ليقدم تصوراً شاملاً عن المسألة القومية ويطوّر برنامج عمل مصمماً لتحديث ليس العملية السياسية فحسب، بل حياة الناس بأكملها».(2) ومع ذلك، فإن هذه الملاحظة تقدم صورة جزئية عن اهمية الإنجاز الذي حققه سعاده مع تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. وحسب السجلات التاريخية لقد كان الحزب السوري القومي الاجتماعي أيضاً أول حزب سياسي محلّي يتجاوز المستنقع السياسي الكثيف الذي خلّفه العثمانيون أثناء مغادرتهم والحصن السياسي المنيع الذي أقامه المحتلون الجدد، أي الفرنسيون. وهكذا، فإن تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي هو «بمثابة نهاية المرحلة الأولى من الحركة القومية العامة للجيل الأقدم وبداية الأحزاب السياسية المنظمة».(3)
ظاهرياً، قد يبدو تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أمراً بسيطاً – ولا يزال البعض يشيد ببساطته. ولكن، أهمية الفعل وحجمه يصبحان ذات مغزىً كاملاً عند دراسة مسألة التأسيس على خلفية حدوثه، ولهذا نحتاج إلى الرصد والعودة إلى نهاية الحرب العالمية الأولى.
كان عام 1918 عاماً بالغ الأهمية بالنسبة إلى كلّ سورية، ونمو الطموحات الديمقراطية – ناهيك عن الممارسات – في الشرق الأدنى ككل. وربما كانت الصورة الأكثر لفتاً للنظر هي انهيار الإمبراطورية العثمانية وتحرير سورية بعد 400 سنة من النير التركي. ولكن على المدى الأطول كانت عملية البناء التي لا بد ان تتبع الانهيار من شأنها أن تفعل أكثر من غيرها لتحديد المدة الزمنية وبأي شكل ستبقى الحرية المكتسبة حديثاً على قيد الحياة. وكان من الأمور الأساسية في هذه العملية بناء مؤسسات سياسية جديدة وإنشاء مجموعة متنوعة من الأحزاب القادرة على التعبير عن مصالح وتطلعات شعب عصري.
وهكذا فقد كان تشكيل الأحزاب السياسية في سورية ككل أمراً عشوائياً، وحتى عندما بدأ تنظيم الأحزاب القابلة للحياة، كانت العملية غير مكتملة ومحدودة بشكل عام.(4) وتم تشكيل عدد قليل من الأحزاب القادرة على حشد دعم كبير أو جذب جمهور اجتماعي واسع. لكن لم يكن لديها هوية سياسية محددة أو تنظيم رسمي واضح. وحتى في لبنان، حيث كانت الأحزاب قادرة على النشوء بحرية شبه تامة أكثر من أي مكان آخر في سورية، واجهت العملية عقبات هيكلية كبرى، واستسلمت في نهاية المطاف للوضع الراهن والصراع الداخلي والتحزب. ونتيجة لذلك، بقيت الأحزاب السياسية في سورية أسيرة قوى المجتمع التقليدية وشبكة واسعة من الترتيبات الاجتماعية والسياسية التي أعطت المواطنين القليل من سلطة اتخاذ القرار أو الإحساس الفعال بالمشاركة السياسية.(5)
في هذا الاطار، ثمة عوامل أثرت على إمكانية تطوّر الأحزاب وقدرة السوريين على إنتاج أنظمة حزبية مستقرة قادرة على الحفاظ على قيم ديمقراطية جديدة، من اهمها التجربة المحدودة التي خاضتها المنطقة في الديمقراطية الليبرالية والضعف النسبي في تطور الحياة الحزبية قبل حدوث الانهيار الكبير.
وكعلامة فارقة عن الديمقراطيات الراسخة في الغرب، لم يكن لدى سورية خبرة كبيرة في ديمقراطية التعددية الحزبية أو ممارسة التعددية السياسة. وعلى الرغم من أن أحزاب سياسية تشكلت حتى قبل الحرب العالمية الأولى، إلا أن هذه الأحزاب بمجملها لم تحقق نجاحاً كبيراً في الحفاظ على مبادئ العمليات الديمقراطية أو تنفيذها. ونتيجة لذلك، ظلت التجربة الديمقراطية والنفاذ إلى الديمقراطية من حيث التمثيل الشعبي محدودة للغاية.
وبينما كانت البلاد خارجة من الويلات الناجمة عن الاحتلال العثماني بعد الحرب العالمية الأولى، أعيد تأسيس الأحزاب السابقة وبرزت بعض سمات المنافسة الحزبية إلى المقدّمة. لكن سرعان ما تم تقطيع السياسات الحزبية خلال مدة قصيرة من فترة حكم فيصل (1918-1920) إذ عزّز الاستعمار الأوروبي قبضته على المنطقة، وشمل تدعيم السيطرة الأوروبية بعد عام 1920 القضاء على المعارضة السياسية الرسمية بما في ذلك الأحزاب السياسية القائمة، وتحدّت بعض الأحزاب الأسياد الجدد للبلاد ولكنها لم تكن تتمتع باستقلال سياسي ولم تتمكن من العمل كمعارضة أو أن تخوض الانتخابات.(6) وقد طغت عليها منظمات اجتماعية وثقافية ودينية متنوعة سمحت لها بالوجود، وعلى الرغم من أنها لم تكن سياسية الطابع في جوهرها، بممارسة ضغوط جماهيرية كبيرة واقتحام المجال السياسي، ما يمثل عناصر التعددية في إطار التوحيد الشامل لنظام الانتداب. كان دور الكنيسة المارونية في لبنان المثال الأبرز على هذا التوجّه. (7)
وهكذا فقد كانت الخلفية التاريخية لتشكيل الأحزاب وتطورها في سورية في ذلك الحين بمثابة تجربة عسيرة، إذ لم يختبر أي جزء من البلاد سياسات ديمقراطية أو عملية حرة نسبياً لأحزاب مستقلة خلال الأربعمئة سنة التي كانت قد مضت من الحكم العثماني. ولم يعِق غياب أي نوع من التقاليد الديمقراطية تطور الأحزاب السياسية في سورية فحسب، بل أثّر بشكل كبير في قدرتها على التطور وعلى الأهداف التي كان يجب أن تسعى لها.
عامل آخر، ذو صلة، كان غياب التراث القومي في سورية. بشكل عام، إن مسألة تطوير أنظمة الأحزاب تميل إلى أن تكون أكثر منهجية، حيث تكون التوترات الداخلية أضعف وتكون المشاكل المتعلقة بتكوين الدولة وتوحيدها أقلّ إلحاحاً. وتعتبر الدول القومية الراسخة والمعترف بها دستورياً شرطاً ضرورياً لقيام نظام حزبي معمول به على النموذج الغربي. إن عدم وجود هذا الشرط لا يمنع الأحزاب السياسية من التشكّل، وإنما يؤثر في عمليات التحول الديمقراطي وتطوير الأحزاب، إذ تجب مواجهة القضايا الأساسية المتعلقة بالهوية المدنية والتمثيل السياسي منذ البداية، وكان هذا هو الحال بوضوح في سورية. كان هناك القليل من الإحساس بالهوية المدنية في البلاد وإيمان محدود بقيام الدولة أو القدرة على التطور كمجتمع سياسي مستقل بذاته، وخاصة من جانب سماسرة السلطة. ودون توافق في الآراء حول هذه الأمور، فإن الكثير من بدايات الأجندة السياسية الأولى في سورية كانت تهيمن عليها قضايا الهوية القومية وما إذا كان ينبغي للدولة أن توجد على الإطلاق، والتي تكتظ بالجهات المعنية بكيفية تطويرها والأهداف التي يجب أن تتبعها حكومتها، وهي الأمور العادية بالنسبة إلى سياسة الأحزاب. علاوة على ذلك، وفي غياب التقاليد القومية في سورية، كان لا يمكن حل مسألة الهوية القومية بسهولة، وهو الأمر الذي شكل عقبة رئيسية أمام تشكيل مجتمع سياسي شامل، وبالتالي نظام حزبي مستقر.
لم تتم تسوية جميع النزاعات بشأن القواعد القومية لسورية والشخصية الضرورية لمجتمعها السياسي بعد انهيار الحكم العثماني، وبقيت المشاكل المتعلقة بتشكيل الدولة والاندماج السياسي الأمر الملحّ في البلاد بعد عام 1918. كذلك لم تتم تسوية العديد من المشاكل الرئيسية المتعلقة بتشكيل الدولة والمطالبات المتضاربة بشكل عنيف على أراضيها بالكامل أو تحريكها بدرجة كافية للأجندة السياسية للحفاظ على أي شيء أكثر من استقرار سياسي مؤقّت. وكان يتم بشكل عام قمع مثل هذه الاضطرابات خلال فترة الانتداب، وذلك بدلاً من تقديم أيّ حل واضح لها، وكان لهذا عواقب يمكن التنبؤ بها على مصير كلّ من العملية الديمقراطية في البلاد والأحزاب السياسية، والتي استمرت وهي مخنوقة بالمشاكل التي لم تحلّ والمتعلقة بتشكيل الدولة والمطالب الإقليمية المتضاربة. وزاد خطر المهمة بسبب المشاكل الإضافية المتعلقة بالاستعمار والتقسيم الإقليمي الداخلي على عكس أي شيء مرت به سورية في عهد العثمانيين.
كذلك أدى الانتقال من الحكم العثماني الى إعادة تشكيل المشهد السياسي في سورية ساعد في خلق ظروف قاسية لتطور الأحزاب السياسية المستقلة. ولا تكمن المشكلة في الانتقال نفسه، بل في الوتيرة التي حدث فيها. ففي حين كانت حركات المعارضة الوطنية أقوى في بعض بلدان الإمبراطورية أكثر من غيرها، كانت وتيرة التغيير السياسي في سورية ضعيفة وغير مترابطة، ولم يكن الاتجاه الذي كانت تتجه إليه وأهداف الجهات الرئيسية الفاعلة بأي حال من الأحوال سهلة التحديد. وقد خلق هذا الأمر وضعاً سياسياً جديداً كلياً كانت عواقبه غير مؤكدة تماماً. من الناحية العامة، كان الانتقال في الواقع ثلاثياً، إذ كان إلى جانب استبدال السيطرة العثمانية بالحكم الديمقراطي والإصلاح – أو في معظم الحالات- إنشاء هياكل دولة جديدة، كان هناك بالتوازي حاجة إلى تفكيك ما تبقى من الهوية السابقة، وبناء هوية جديدة، انطلاقاً من الصفر تقريباً. وكان لهذا التحول الواسع آثار عميقة في جميع أنحاء سورية، فقد عطّل إلى حدّ كبير عملية إعادة البناء القومي وألحق مزيداً من الضغط على تطور الأحزاب السياسية. وكان الجانب الثالث من عملية الانتقال، بطبيعة الحال، التسلل إلى سورية ومن ثم احتلالها لاحقاً من قبل القوى الأوروبية صاحبة الأطماع. وبينما جرى الاحتلال تحت اسم الديمقراطية والحرية، كان تأثيره على تشكيل الأحزاب الجديدة وطبيعة الأحزاب، في سياق التطور، أمراً معاكساً في معظمه. فهو من جهة، خنق الحركة الوطنية الوليدة في سورية وأجبر توجهاتها المختلفة على إعادة تقويم أهدافها من جديد، وأوجد، من ناحية أخرى، ظروفاً لبقاء القوى التقليدية ضمن بنية إصلاحية جزئية ذات إمكانيات أكبر لمنع ظهور معارضة متماسكة.
يعتبر ضعف المجتمع المدني أو قوته النسبية أحد أهم الشروط لتطور الأحزاب. وهنا يبدو أن العامل الحاسم ليس تطوير أو الحفاظ على مجالات الاستقلال أو الحكم الذاتي الاجتماعي، بل قدرة هذه الأحزاب على التفاعل وتنسيق النشاط بطريقة عفوية نسبياً وغير مقيدة، وذلك في إطار نظام ديمقراطي ليبرالي. ومن الأرجح أن يعزز المجتمع المدني الأكثر قوّة الاتجاهات الديمقراطية وأن يدعم العمليات المستقرة لسياسات الأحزاب وذلك أكثر من الأنظمة الأضعف. كما يمكن أن يكون بمثابة حاجز فعال ضد تطوير الأحزاب البدائية التي تغذّي الصراع السياسي أو الجسدي المرير والذي لا يمكن في بعض الأحيان أن يتم احتواؤه داخل هيكل دولة واحدة.
ويحمل هذا الدور المتناقض للمجتمع المدني في سورية أهمية كبيرة، إذ كان بمقدوره أن يوفر فقط قاعدة ضعيفة للتنمية المؤسساتية وإنشاء منظمات سياسية فعالة. لقد كان مرتبطاً بشكل أوثق بتخلّف نسبيٍّ وبنية سياسية قديمة، وبالتالي، أقل ملاءمة لتطوير منظمة قوية، وأقل قدرة على خلق قيادة مؤسساتية يمكنها التفاوض على معاهدات فعالة وتنظيم عمليات التغيير السياسي. وقد انعكست القدرات التنظيمية الضعيفة لدى المجتمع المدني في سورية سلباً على تطوير المنظمات الفعالة، وشجعت على المزيد من أشكال القيادة الحزبية، وأثرت في درجة الوحدة التي كانت قد تمكنت من الحفاظ عليها في مواجهة الضغوط السياسية. كما أنها سهّلت عملية التمايز داخل البلد وساعدت في تشكيل مجموعات مستقلة تلتزم إمّا مصالح محلية أو طموحات أجنبية.
وهكذا، رغم توافر فرص لأشكال جديدة من التنظيم والمبادرات السياسية المتنوعة، إلا أن الانهيار السريع للنظام العثماني ترك مجتمعاً مدنياً غير منظم نسبياً، فقد ظهرت فيه مجموعة واسعة من الاستجابات للتحدي المتمثل في الانتقال السياسي وأنواع مختلفة من الأحزاب، كانت قادرة على التشكّل ولكن لم تصل أبداً إلى نموذج الأحزاب الجماهيرية أو القومية.
ملاحظة أخيرة لا بد منها، ففي حين أن العديد من السوريين رفضوا الحكم العثماني بحزم ورفضوا الكثير مما كان يمثله، وبدوا سعداء بنفس القدر باحتضان المبادئ العامة للحرية الوطنية والديمقراطية الليبرالية (وغالباً بُنى السوق الحرة التي كانت ترتبط فيها الديمقراطية الغربية ارتباطاً وثيقاً)، كان هناك أيضاً القليل من الحماس لاغتنام فرص من أجل النضال السياسي المستقل. ومن المؤكد أن وتيرة التغيير المطلق كانت غير واضحة ولم تقدّم إلا القليل من الأساس المتين للعمل العام المنظم. لكن العامل الحقيقي الذي كان له تأثير مباشر على قدرتها على العمل السياسي كان، بشكل لا يقبل الجدل، التقسيم الجغرافي لسورية إلى منطقتي نفوذ، وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو، وتقسيمهما لاحقاً إلى كيانات أصغر تفتقر إلى أي دعائم قومية. وقد عزز هذا الانقسام نفوراً واضحاً للعمل الجماعي وأجبر الأحزاب القائمة على تقليص أنشطتها أو تبنّي أهداف واستراتيجيات جديدة كانت أكثر انسجاماً مع الواقع السياسي الجديد على الأرض أكثر من الحاجة القومية الأكبر للبلاد. بالإضافة إلى ذلك، ونتيجة لسايكس- بيكو، عادت تجربة العصر العثماني، حيث ظهرت عناصر مثل اللامبالاة والخوف التي كانت تهيمن على السلوك الاجتماعي والأعراف المترسخة، إلى الظهور على نطاق أوسع وعززت شعوراً جديداً بالاستسلام الذاتي وأعطت القوى الرجعية في المجتمع فرصة جديدة للحياة في الوقت الذي كانت المساعي الوطنية تكتسب زخماً. وفي هذا السياق، كان لعملية التشكيل السياسي في سورية أن تنتج فقط منظمات ضعيفة في كثير من الأحيان مع القليل من الوضوح الأيديولوجي ووقعت في شرك القيود المحدودة للمصالح المحلية. وأصبحت الأحزاب ذات فصائل مختلفة، حيث تنافس أتباع القادة المتنافسون مع بعضهم البعض من أجل السيطرة على تنظيم الأحزاب أو من أجل المشاركة في غنائم المناصب، وحدث التشرذم السياسي، وكذلك السلوك غير المسؤول في حالات معينة.
وكما هو الحال في أي نظام سياسي، فإن الموقع الرسمي وغير الرسمي للسلطة هو محدد حاسم للطرق التي تتشكل بها الأحزاب السياسية وتعمل وفقها. في حالة سورية، أدى التقسيم الجغرافي الذي عانت منه بعد الحرب العالمية الأولى على أيدي الأوروبيين إلى تعزيز الأحزاب ذات الصبغة المحلية وبُنى سياسية متساهلة مع تشكيل الأحزاب الصغيرة والتكتلات ضمن الأحزاب الكبيرة. وكان هناك عاقبتان رئيسيتان اثنتان واضحتان لهذا الشكل من البنى والتنظيم. إحداهما غياب نظام حزبي قائم على برامج قوية وواضحة، فأصبحت الشبكات المحلية التي تقوم عليها البنية الحزبية تحت تأثير أو سيطرة أفراد معينين أو طوائف دينية معينة، ما أدى إلى تضييق الانجذاب إلى الأحزاب البرامجية بشكل عام. والعاقبة الثانية هي أن أنواعاً معينة من الأحزاب مما يمكن تسميتها «الكيانية أو المحلية» أصبحت متوطنة، وبالتالي تمّ إجبار الأحزاب السياسية على القيام بأنشطتها وفقاً للإملاءات الجغرافية المنبثقة من تقسيمات سايكس- بيكو وبالتالي الروابط السياسية المحدودة الناشئة عنها.
ولذلك، لا يمكن للمرء أن ينظر إلى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي بعيداً أو بصرف النظر عن السياق التاريخي الواسع الذي حدث فيه. الشلل والطبيعة المثبطة للنظام السياسي؛ حالة الانحطاط النفسي في المجتمع؛ التركيب الذهني للشعب؛ عدم اليقين والخوف اللذين استحوذا على الخيال العام؛ والتشرذم الذي كان متغلغلاً في كل مستويات الحياة الاجتماعية والسياسية؛ النظام المتقن للتجسس والمراقبة الذي كان موجوداً؛ والندرة في القدرة المؤسساتية والإدارية؛ وبطبيعة الحال، وجود السيد الأعلى الأجنبي صاحب النفوذ القوي- كل هذه العوامل يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تقويم حدث تأسيس الحزب. كذلك علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذه العوامل كانت موجودة بطريقة قوية ومنهجية بحيث لم تترك مجالاً للأخطاء أو للفرص الثانية. عندها فقط يمكننا أن نفهم ونقدّر حجم الإنجاز الذي حققه سعاده بتأسيس الحزب.
وبفضل الحزب السوري القومي الاجتماعي، لم ينجح سعاده فقط في خلق شيء ما من لا شيء، ولكن أيضاً في إعادة تعريف قواعد وحدود حياة الأحزاب السياسية في البلاد. وقد أدخل أشكالاً بديلة للعمل القومي الجماعي، وعزز إحساساً مختلفاً بالالتزام السياسي والمسؤولية الاجتماعية، وأرسى معايير جديدة أصبحت نموذجاً يُحتذى للآخرين ليصار إلى تقليده.(8) ربما ينبغي تذكير العلماء وغير العلماء، الذين لا يزالون يتجاهلون هذه التغييرات أو يقوضون قيمة العمل الذي قام به سعاده، بأنه حتى ظهور سعاده، لم يكن أي من القادة السياسيين أصحاب الوزن السياسي والمالي في ذلك الوقت – مما يسمون بـ«الأقطاب» و«المفكرين» الذين لم يكتفوا بتصويرهم على أنهم «قادة» و«أبطال» – لم يقتربوا من كسر الحلقة المفرغة لتشكيلات الأحزاب في سورية أو من تشكيل حركة سياسية ذات نوعية مماثلة للحزب السوري القومي الاجتماعي. وكانوا، في أحسن الأحوال، قادرين على الأحزاب الصغيرة التي كانت أهدافها، مهما كانت جوهرية، غامضة ولا يمكن أن تتطور إلى أبعد من خلق أحزاب «ستاميتش»- أي أحزاب قصيرة الأمد في خدمة السياسيين من أصحاب الكراسي.
1. جون ب. ديغنز،موسوليني والفاشية: وجهة نظر من أميركا. مطبعة جامعة برينستون، 1972.
2. ليونارد بيندر،السياسة في لبنان. نيويورك جون ويلي وأولاده، 1966 ص157.
3. هشام شرابي، القومية والثورة في العالم العربي، فان نوستراندرينهولد، يو أس 1966، ص 18.
4. هاشم عثمان، الأحزاب السياسية في سورية: السريّة والعلنية. لندن: دار رياض الريس، 2001.
5. انظر عبد الله حنا، الأحزاب السياسية في سوريا القرن العشرين. دار كتب، ٢١٠٠.
6. فيليب شكري خوري، سورية والانتداب الفرنسي (1920-1945). دار جامعة كامبريدج للنشر، 1989.
7. انظر نويل دبليو. سبنسر، «دور البطريركية المارونية في السياسة اللبنانية من عام 1840 إلى الوقت الراهن»، برنامج الدراسات العربية، الجامعة الأميركية في بيروت، 1963.
8. انظر لبيب يمق زويا، «السياسات الحزبية في النظام السياسي اللبناني»، في السياسة في لبنان، تحرير، ليونارد بيندر، نيويورك جون ويلي وأولاده، 1966، ص 65 – 143.
الدكتور عادل بشارة