بالتزامن مع المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية لحرب الإبادة الجماعية التي نفذتها السلطات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ضد الأرمن والسريان الذين يشملون الآشوريين والكلدان.
وإذا كانت المذابح الصهيونية ماثلة للعيان على مدار الساعة بغطاء من أمريكا والاتحاد الأوروبي، وإذا كان الأرمن أكثر يقظة وفعالية لإحياء ذكرى المذابح العثمانية ضدهم، فإن هذه المذابح ضد السريان التي تمت بغطاء بريطاني، تكاد تكون منسية أو مسكوت عنها، مما اقتضى لفت الانتباه لها ولا سيما أن القانون التركي يجرّم من يتطرّق لها بدلا من الاعتراف بها والاعتذار عنها.
عاش السريان في مناطق الهلال الخصيب السوري – العراقي والأراضي السورية المحتلة من تركيا مثل كيليكيا والاسكندرون، وهم في كل تسمياتهم الأخرى وفئاتهم من المكونات الأساسية في التاريخ السوري الحضاري العريق القديم لهذه المناطق، فغالبية المؤرخين وجدوا روابط لغوية وثقافية واجتماعية وتاريخية بين مفردات: سوريا، آشور، والسريان، سواء بدلالة الثقافة الآرامية العامة أو بدلالة الاشتقاق السرياني منها.
وقد شكلت هذه المناطق من سوريا التاريخية أهم مساهمة حضارية في تاريخ الشرق القديم، فضلا عن حروبها المعروفة مع القبائل اليهودية البربرية التي كانت برسم الاستئجار من الجيوش الغازية، مما فسّر ويفسّر جانبا من الحقد الإجرامي الذي عبّرت عنه الثقافة التوراتية في العدوان الانجلوسكسوني الأمريكي البريطاني، على العراق وسوريا، سواء بصورة مباشرة عبر جرائمهم المعروفة خلال العدوان المذكور أو بصورة غير مباشرة عن طريق أدواتهم التكفيرية عندما اجتاحت بدعم أمريكي مناطق السريان والآشوريين والكلدان في سوريا والعراق.
ولم تكن المذابح العثمانية التي انطلقت في عهد السلطان عبد الحميد وتكرّست في المذابح الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى بعيدة عن ثقافة انتقام مشابهة بالإضافة إلى أسبابها المباشرة الأخرى، فخلال تلك الحرب تعرّض السريان كما الأرمن لمجازر مروعة على يد الأجهزة العثمانية والضبّاط الألمان وميليشيات الإقطاع الكردي التابعة لها، وذلك في سياق سياسات التتريك أو التهجير من جهة، وردا على إعلان السريان الحياد في الحرب ورفضهم الانخراط في التجنيد الإجباري، حيث عوقبوا بالاعتقالات والاغتيالات الواسعة بحق زعمائهم الروحيين والسياسيين.
وهو الأمر الذي دفع هذه الزعامات إلى طلب السلاح من روسيا القيصرية للدفاع عن أنفسهم، فكان الرد العثماني عليهم مروعا ولم يقتصر على النخب السياسية والروحية بل طال كل سرياني، طفلا كان أو امرأة، وتراوحت تقديرات المؤرخين حول عدد الضحايا السريان بين ربع مليون ونصف مليون ضحية غالبيتهم من الأطفال والنساء.
ولم تكتف السلطات العثمانية بقيادة حزب الاتحاد والترقي الطوراني العنصري بحملات الإبادة الجماعية بل انتهجت سياسة الاقتلاع والتطهير الجماعي وإجبارهم في الجزء السوري المحتل من قبل تركيا على مغادرة وطنهم في أورفا وماردين وطور عابدين ومديات وديار بكر وأورميا.
وكما حدث مع الأرمن، راحوا يستقرون في شمال سوريا والعراق وخاصة حلب والقامشلي ومدن ومناطق أخرى مثل بيروت، ولم يحظوا في تلك المناطق باستقبال واحتضان من الأهالي السريان وحسب، بل ومن العرب أيضا، وقد عرفت المذابح العثمانية ضدهم بمذابح سيفو (نسبة إلى السيف بالمعنى السرياني) والذي استخدم على نطاق واسع في النحر وبقر البطون والقتل.
مذبحة الأرمن
كما تصادف هذه الايام المذابح الجماعية التي تعرض لها الأرمن خلال الحرب العالمية الاولى على يد الجيش التركي، الذي سبق تلك المذابح بحملات عسكرية ضد الثوار العرب في الكرك والشوبك وجبل العرب “الدروز” في حوران..
ويتراوح عدد ضحايا تلك المذابح بين مئات الآلاف وبين مليون ضحية، حسب المصادر الارمنية.
وقد اعتقد الارمن آنذاك مثل كل القوميات المحتلة من قبل الاتراك، ومنهم العرب والألبان وغيرهم، ان ظروف الحرب مناسبة لإعلان استقلالهم في دولة قومية خاصة بهم، لا سيما بسبب سياسات التتريك بالقوة آنذاك..
وفي حين اختار العرب والالبان معسكر دول الحلفاء، تحالف الأرمن مع روسيا لنيل استقلالهم …
ومما يذكر عن ظروف تلك المذابح دور “البرجوازية اليهودية” فيها التي كانت تدعم حزب الاتحاد والترقي الماسوني المسيطر على الدولة التركية، فضلا عن الاصول التركية “الخزرية” لمعظم اليهود..
واضافة لروسيا التي ساندت الأرمن في اقامة جمهورية أرمينيا الحديثة، فقد استقبل العرب موجات كبيرة من اللاجئين الأرمن ومنحوهم جنسيات بلادهم لكنهم لم ينخرطوا في المواقع السياسية والاقتصادية للدولة كما فعل الاكراد مثلا.
ومن اللافت للانتباه هنا، ان العرب رغم دورهم في احتضان الموجات الارمنية إلا انهم لم يعترفوا حتى الآن بالمذابح الجماعية التي تعرضوا لها.
وفيما يخص الارمن عموما، فهم يتحدرون من منطقة البحر الاسود “قامات متوسطة وشعر كثيف” وتتبع غالبيتهم كنيسة خاصة مستقلة تؤمن بالطبيعة الواحدة للمسيح “أقرب إلى الأقباط والكنيسة الاثيوبية” وتغلب عليهم نزعات العمل الحرفي خاصة الذهب والنقوش والتصوير والايقونات والتصميم … الخ
أما في المجال السياسي- الفكري فينقسمون بين حزبين كبيرين، هما حزب البرجوازية الوطنية ويمثلها الطاشناق ويعني الشرف، وقد تأسس أواخر القرن التاسع عشر وحزب الهاشناق “الجرس” الذي تأسس في الفترة المذكورة أيضا.
ومن القوى الأخرى، الجيش الأرمني السري، الذي تأسس في سبعينيات القرن الماضي واستهدف مصالح تركية وفقد قائده، هاكوب هاكوبيان في عملية للمخابرات التركية..
وهناك النشطاء الشيوعيون في الأحزاب الشيوعية العربية وأبرزهم القائد الشيوعي الراحل، أرتين مادويان.