مذكرات “يوسف صايغ”، ذاكرة إنتقائية = حقائق مغيّبة

يُنسب إلى سعاده، بعد سقوط كل من فخري معلوف وفايز صايغ وحنثهما بقسم الانتماء، قوله في العبارة التالية: “هناك عائلتان، الصايغ والمعلوف، يستخدمون الحزب كمدرسة، يمكثون بعض الوقت، ثم يتخرجون”. وكنتُ سمعتها بصيغة مماثلة من قبل على لسان أحد رفقاء الرعيل الأول… إلى أن قرأتها في كتاب “سيرة غير مكتملة” الصادر سنة 2009، ويحمل ذكريات “الرفيق السابق” يوسف صايغ. كان التسجيل الصوتي باللغة الإنكليزية، وصاغته زوجته روز ماري صايغ بعد وفاته، ونقله إلى العربية مجيد البرغوثي، ونشرته “دار رياض الريّس للكتب والنشر” في بيروت.
قرأتُ الكتاب بعد صدوره بأشهر معدودات. وتمعّنت ببعض المرويات التي تستحق نقاشاً معمقاً لدحض مجموعة أخطاء مقصودة. وكالعادة، سجّلت رؤوس أقلام وملاحظات موجزة لكي أعود إليها عندما يُتاح لي الوقت المناسب. وكالعادة أيضاً ظلت الملاحظات مجرد حبر على ورق، ودخلتْ في طور الانتظار… الذي طال إلى أن قرأت رسالة من الزعيم إلى يوسف صايغ بتاريخ 10 أيلول سنة 1947 بوصفه “المفوض الإداري لفلسطين”. وفي الوقت نفسه أثار أحد المواقع الإلكترونية علاقة يوسف وإخوته (خصوصاً فايز الذي تولى عمدة الإذاعة) بالحزب في فترة الأربعينات، وبالتحديد بعد عودة سعاده إلى الوطن في آذار 1947.
الملاحظة الهامة الأولى التي سجّلتها آنذاك تتعلق بالمقدمة التي كتبتها السيدة روز ماري بوكسر البريطانية الأصل، أرملة الراحل يوسف. فقد أوردت في سياق تعدادها لمشاريع زوجها الاقتصادية ودراساته وأبحاثه في هذا الحقل، العبارة التالية: “… وربما كان أول مفكر عربي اقترح استخدام النفط كسلاح سياسي”! طبعاً هذا رأي خاطئ تماماً، إذ أن سعاده كان من أوائل الذين أكدوا على دور النفط كسلاح في التصدي للمشروع الصهيوني والقوى الغربية الداعمة له. فقد نشر في جريدة “الجيل الجديد” العدد 35، تاريخ 19 أيار 1949 ( لاحظوا التاريخ!) مقاله المشهور “سلاح إنترناسيوني لم يستعمل”.
كانت حكومة دمشق قد وقعت على اتفاقية مد أنابيب النفط (تابلاين)، فكتب سعاده قائلاً: ” إننا نتنـاول هنا الإفـادة السياسيـة القوميـة التي كـان يـمكـن جنيهـا عن طريق الـمساومة الدبلوماسية، وعن طريق استعمال هذا السلاح الإنترناسيوني الفعّال الـمسمى امتيازات البترول (…) هذه الاتفاقية، على هذه الأسس، تشكل في أيدي الدول السورية والعربية سلاحـاً إنترنـاسيونيـاً لو أحسـن استعمالـه لـحـدَّ من فعاليـة التأييـد الأميركـاني الشامل لإسرائيل في كل الـحقول (…) فيتضح من مجرّد تصديق اتفاقية التابلاين الأميركيـة أننا لم نستعمـل هذا السلاح البترولي للحدّ من تأييد الولايات الـمتحدة لليهود في لوزان وفلسطين والأمـم الـمتحدة (…) هذا السـلاح الثميـن لم نستعملـه وأسلحـة غيره كثيـرة تبقى بدون استعمـال. وننتظر، مع كل ذلك، أن نربح الـجولات الـمقبلة فـي حـرب الـمـوت أو الـحيـاة مـع الغزاة الصهيونيين”.
قد تكون روز ماري صايغ معذورة في عدم معرفة كتابات سعاده الريادية حول كل ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. لكن ما هو عذر أنيس صايغ، شقيق يوسف الأصغر، الذي راجع المذكرات ووضع مقدمة للكتاب، واستحق شكر روز ماري “لقراءته الفصول كافة وتصحيحها”! بل ما هو عذر رفيقنا وصديقنا الدكتور محمود شريح الذي حظي بالشكر أيضاً “لمساعدته القيمة في إعداد هذا الكتاب؟” فهل يُعقل أن أنيس الباحث الضليع بالشأن الفلسطيني، والذي نشط ثقافياً في رحاب الفكر القومي الاجتماعي خلال الخمسينات، يغيب عنه استشراف سعاده الاستثنائي حول دور النفط في معركة الأمة السورية ضد المشروع الصهيوني – الغربي آنذاك؟
ومن العدالة الإشارة إلى أني لم أقرأ ليوسف صايغ ما يؤيد ما ذكرته روز ماري حول سلاح النفط. ولعلها هي نفسها غير متأكدة بدليل استعمالها عبارة “… ربما كان”! غير أن هذا لا يعفي أنيس من مسؤوليته طالما أنه كان ابن القضية القومية وربيبها. قد نتفهم إذا كان الأمر مجرد ذاكرة خائنة، أو أنه لم يعطِ أهمية خاصة للعبارة فتم التعامل معها باعتبارها كلاماً عاماً لا يلزم أحداً! لكننا نخشى أن يكون هناك تجاهل مقصود، خصوصاً وأن المقاطع الواردة عن سعاده والحزب في كتاب “سيرة غير مكتملة” تتضمن تأويلات تحتمل وجهات نظر مختلفة ومتضاربة.
إنها مذكرات غنية وحميمة، “حمّالة أوجه” من كل حدب وصوب. والكتاب واحد من إصدارات عدة نشرها أشخاص كانوا في الحزب، ثم تراجعوا لأسباب متنوعة. ويبدو لي أننا لم نعطِ لمذكراتهم الأهمية التي نسبغها على مذكرات الرفقاء الذين ظلوا عاملين في الحركة القومية الاجتماعية. وهذا موقف خاطئ في مسألتين:
1 ـ إن مرويات الخارجين على الحزب قد تتضمن معلومات صحيحة لكنها مجهولة لدينا. فهذا يفيدنا في تسجيل تاريخ الحزب.
2 ـ إن بعض الذين نشروا مذكراتهم يلقون الكلام على عواهنه بطريقة مغرضة ومشوهة. لذلك فإن اطلاعنا عليها وتشريحها وتصويب ما اعتل منها هي خطوة ضرورية في المواجهة المستمرة مع أعداء الأمة.
وفي الختام نقول إن المذكرات لا تصبح جزءاً من التاريخ إلا إذا أخضعناها لموازين النقد والمقارنة، وجردّناها ـ أولاً وقبل كل شئ ـ من نزعات الأنا القاتلة.