الأشكال اوضح تجليات التفاعل المدرحي

بداية لا بد أن نميز بين الأشكال الطبيعية التي تدخّل فيها الانسان، فشّكلها او أعاد تشكيلها، أي التي نتجت عن تفاعله مع وَسَط مادي محيط وتلك التي لم يتدخل فيها، فالأشكال الطبيعية لا عِلاقة لنا بها، فتفسيرات نشوئها وتطورها هي كليا مختلفة.
في اللحظة التي تم فيها أول تفاعل بين الانسان والمادة وهي البيئة المحيطة به، في مرحلة ما عرف بالاحتكاك، كان تفاعلا عقليًا -عاطفيا، تشكّلت المادة، أي تغّير شكلها. لا شك أن مدى وحدود التشكل محكومة حكما بعوامل محددة، منها قابليتها للتشكل ومنها قدرة النفس على التشكيل
هذا التفاعل جرى ضمن مثل (محيط-دماغ-نفس). ولا شك أن كل الديناميات الاجتماعية تجري ضمن هذا المثلث. فإذا كانت النفس هي مركَب الفكر والشعور، فمن الخطأ حكما فصل الفكر عن الشعور. فهما يتقدمان ويتقهقران معا. فكلما ارتقى الفكر ارتقى التفاعل وتغير الشكل. إلا أن التغير ليس مطلقًا، فإنه يبقى محصورًا ضمن عوامله المحددة.
في هذا الشكل بدأت تتمظهر خصائص النفسية للذات الفاعلة. وهنا الكلمة الفصل أن الذات الفاعلة في المادة هي نفس الجماعة التي تختلف عن ذات النفوس الأخرى.
نتج عن هذا التفاعل أشكال عدّة. الفن المعماري، الرسوم، النحت، الأدب، الابتكارات (معزق، زراعة، سفن، قوارب، سدود، أقنية، جسور، ….. الشرائع، الأبجديات، الدين، طقوس العبادة، المطبخ اللباس، الرقص، الموسيقى.. الخ.)
الثقافة هي ناتج هذه الثلاثية. الثقافة المادية والروحية هي نتاج هذا التفاعل. في هذا المثلث وهذه الديناميات نفهم نشوءها وتعدّدها وتنوعّها …. الاختلاف بين الثقافات مرده إلى عنصرين بحت (مادة كوسط محيط والذات المتفاعلة بخصائصها) ذات الجماعة لا الفرد طبعا.
“المادة تحدد الشكل”. كيف نفهم هذا التعبير وفي هذا السياق؟ بنواح عدّة أقلها قدرة الذات على تطويع المادة، في مقابل حدود التطويع الخاص بالمادة. ثانيًا مدى توفر هذه المادة. ثالثًا هي أن المادة حكمت الشكل بطبيعتها. هل تتصور المعزق لحراثة الماء؟ شكل السفينة للطيران؟
مسألة مهمة: كيف نتصور شكل انسان وجد على كوكب لا يشبه كوكبنا بخصائصه؟ من الصعب كليا تصور شكله. إن شكل انساننا الذي نعرفه حدده شكل المادة المحيطة به.
إن المنزل واحد لكن أشكاله مختلفة. شكل المنزل في الصحراء تحكمه طبيعة الصحراء وخصائص الإنسان الذي بناه. المعبد واحد لكن اشكاله مختلفة. هل نجد معبدًا فيه مذبحًا إذا كان المعتقد لا يؤمن بالذبيحة. وإذا تخلى المعتقد عن الذبيحة، فسيتطور شكل المعبد حكما ليشمل الشكل هذا التطور أي غياب المذبح.
ما الذي اختلف بين الأشكال؟ إن المنجز بشكله هو هُوِيَّة روحية مادية كاملة. هنا تدخل الثلاثية الثانية الفكر والشعور والمادة. ثلاثية ديناميتا التفاعل.
هنا يصبح الشكل هُوِيَّة فكرية عاطفية مادية.
الثلاثية الثالثة (فكر نهج شكل) هي مفتاح تفسير الأشكال. الشكل هو ابن الفكر ونتاجه وصناعته ويحمل هويته. لا شكل دون فكر.
إن الأشكال تشكلت في مرحلة تاريخية، وعامل التشكل وعناصره هي الإنسان (ذات اجتماعية مكتملة النفس فكر وشعور) والمادة كمحيط بكل ما تشمل الكلمة، هذا التفاعل هو تفسير تنوع الأشكال. المادة تحرض الذات على التفاعل بعامل الحاجة. أساسه التفاعل وأهلية النفس وطبية المادة. هذا هو المفتاح الأساسي لتفسير تنوع الأشكال.
أكثر معبر عن هذا التفاعل المشكل للهوية، هي الرموز الثقافية. إنها الأشكال التي صاغتها الثقافات لتعبرعن نظرتها الى المسائل العميقة التي شغلتها، الإجابات التصورية التي تعبر عن مضامين فكرية عاطفية روحية.
إن تفسير الأشكال ضمن ثنائي (محتوى وصورة) شاخ وبالتالي هو قاصر بالكامل عن فك لغز التنوع والتشكل والتطور والهوية. إن مدارس النقد الأدبي تحولها إلى التحليل (فكر وشعور مادة)، أصبح بالإمكان تفكيك معظم اسرارها أقله كيف نفسر تنوع الأدب بين الشعوب؟
في كل مرة حصل تحول جذري في الفكر، تحولت كل اشكال الأدب والبناء والرسم والنحت والموسيقى وغيرها. الشكل لا يتحرك بشكل منفصل ن حركة الحياة..
ان الأشكال في عمقها تشكلت بعوامل التفاعل وتطورت بالعوامل نفسها وتنوعت، ومن غير الممكن فصلها عن سياقها. لنأخذ مثلا الحديقة اليابانية، هي حديقة الزن أو التأمل. كيف نفسر شكلها؟ ولماذا جاءت بهذا الشكل؟ لأنها التعبير النفسي الروحي عن النفس اليابانية الساعية الى التسامي بر التأمل والحديقة هي المكان الذي يؤمن لها هذا المناخ المساعد على التسامي. طبعا بعد تشكيل المادة المتوفرة.
الثقافة المادية والنفسية هي نتاج التفاعل بين النفس والمادة في إطار حدود النفس وامكانياتها وحدود المادة وامكانياتها.
لنأخذ مثلا الدولة، إنها شكل مدرحي كامل يعبر عن نتاج التفاعل العقلي النفسي الروحي مع المادة. أوضح تعبير عنها. هي في الحقوق التي تشتمل عليها. وطبعا أشكال الدولة هي هويات لنظرات ثقافية ونفسية مختلفة المضامين.
أيضا المؤسسات تشكيل واضح، هندسة أشكال اجتماعية معقدة. التشكيلات العسكرية هي نظام اشكال معقد قوامه الفكر والشعور والمادة. وضعيات القتال، أشكال الادارة كلها، هي أوضح اشكال المدرحيات. فمثلا الجيوش لا تتشكل بالأشكال نفسها. كيف نفسر ذلك؟ لأن هذه الاشكال تشكلت في سياقات عقلية –نفسية- مادية مختلفة.
إن اقتباس الاشكال دون مراعاة خصائص الجماعة خطأ كبير. الاشكال تحرك عوامل نفسية عاطفية في مكنونات افرادها. يتفاعل أبناء الجماعة مع شكل هو من هويتها. ولا تتفاعل طبعا مع ما هو دخيل على نفوسها. هل تتكيف الأشكال؟ نعم تتكيف. ان إسقاط أشكال دخيلة على نفسية مختلفة الخصائص، تجعل الاشكال قابلة للتكيف بحسب الذات الحاملة، أو تصبح قوالب جامدة تعيق حركة وحياة هذه الذات.
كيف تطورت الأشكال؟ تطورت ضمن عناصر وعوامل التفاعل المذكور. عندما تتغير النفس المتفاعلة قلا او شعورا، وعندما يتغير الوسط المحيط أيضا يتغير الشكل.
ويحدث أن تتحجر الاشكال فتعجز عن مواكبة سرعة تطور الفكر، هذه حال العادات والتقاليد مثلا. ماذا يحدث؟ إما أن تضمر حياة الجماعة فتتحجر حياتها، فتتجمد في أشكال لا توائم حياتها، وإما ان تنفجر الاشكال وتجدد. نعم تتجدد الأشكال بعامل تطور الحياة حكما. إذا فالعقل يطور أشكاله بما يتناسب مع طبيعته وسرعة تطوره بعامل تطور الحياة، وعامل التفاعل بين المجتمعات المختلفة الخصائص النفسية والعقلية.
بالخلاصة ما أردت قوله في هذا النص، أن الأشكال المدرحية في عمقها هي هوية الجماعة وكل خصائص الجماعة النفسية والروحية والقلية هي ضمنها..